حين بدأ العام الجامعي الأول، كانت خطواتها الأولى نحو الغربة محاطة بمشاعر متضاربة بين الحماس والخوف. تركت دفء المنزل حيث الضحكات العائلية وشعور الأمان خلفها، لتجد نفسها في عالم جديد لا يعرفها ولا تعرفه. جامعة بعيدة، وسكن للبنات، ومجتمع يبدو غريباً عن كل ما ألفته.
في الأيام الأولى، بدا المكان وكأنه متاهة. وُجهت إلى غرفة تعجّ بالفتيات اللواتي يحملن أفكاراً وأسلوب حياة لا يتماشى مع قناعاتها. فتيات يتحدثن عن "التحرر" بطريقة شعرت أنها تنزع منها هويتها. لم تجد في تلك الغرفة مساحة تعكس روحها، فراحت تجاهد بإصرار لتقديم طلب بالنقل إلى غرفة أخرى.
وفي اليوم التالي، حملت إليها الإدارة خبراً غيّر مسار حياتها الجامعية: غرفة جديدة في الطابق السادس. السكن وحده في هذا الطابق بدا كأنه وجهٌ آخر للغموض. كانت الغرفة لطالبة تعيش وحدها، والقصص التي سمعتها عن هذه الطالبة زادت من قلقها. "لماذا تعيش وحدها؟ هل هي خطيرة؟" تساؤلات راودتها دون إجابات.
حملت حقيبتها وصعدت السلالم. كان الطابق السادس يبدو بعيداً كأنه قمة جبل، كل درجة من السلم زادت من تعبها وتوترها. وصلت إلى الباب أخيراً، وأنفاسها كانت كأنها شهيق حياة جديدة. دقّت الباب برفق، شعرت بثقل اللحظة وهي تنتظر ما سيأتي. كانت قد رسمت في خيالها صورة غريبة: فتاة غامضة، ربما حادة الطباع أو حتى معادية.
ولكن الباب انفتح على غير المتوقع، ولم تكن الصورة التي رسمتها في ذهنها إلا وهم. ظهرت فتاة بحجابٍ نقي يكسوها، تحمل بين يديها مصحفاً، وعلى وجهها تضيء ابتسامة مطمئنة. اسمها "حنان"، طالبة في سنتها الثالثة بكلية الطب، وعلى ملامحها هدوء وسلام جعلها تشعر بأنها وصلت إلى بر الأمان.
تبادلتا كلمات الترحيب، وما إن دخلت الغرفة حتى شعرت وكأنها تدخل عالماً من النقاء. كانت حنان مشغولة بالصلاة وقراءة القرآن، ويبدو أن الغرفة قد امتلأت بطمأنينة كانت تحتاجها. خلال الأيام التالية، بدأت تتعرف عليها أكثر، ووجدت فيها أختاً كبرى مليئة بالحكمة والحنان.
كانت حنان تكبرها في العمر وفي الأحلام. كانت مثالاً للالتزام والجدية والطموح، وقد علمتها دروساً لا تُنسى في الصبر والمثابرة. أصبحت علاقتهما أشبه برابطة أخوية، حيث كانت حنان تساندها في كل صعوبة، سواء أكاديمياً أو نفسياً.
مرت سنتان مليئتان بالذكريات، الذكريات التي رسمت في ذهنها صورة حنان كأخت وأم وصديقة. ولكن كما هي الحياة، تأتي اللحظات التي لا مفر فيها من الفراق. تخرجت حنان، وغادرت المدينة، تاركة فراغاً لا يمكن ملؤه بسهولة.
رغم الفراق، كانت تلك العلاقة درساً عميقاً بأن الألفة يمكن أن تزهر حتى في أقسى ظروف الغربة. بقيت ذكريات حنان طيفاً من الأمل والدفء، وكلما تذكرت ابتسامتها، شعرت وكأنها ليست بعيدة. لا تزال تحلم بلقاء يجمعهما يوماً ما، لتحتضن ذكريات أخوة زرعت الأمل في قلب الغربة.
بقلم الأستاذة
تعليقات
إرسال تعليق