حلقة اليوم : الغريب عند أبواب المدينة
كان الغروب ينسحب على أطراف السماء، يلقي خيوطه البرتقالية فوق مدينة صغيرة، تكتنفها البساطة وتحيط بها الجبال كأم تحمي أبناءها. كانت الشوارع هادئة، والناس منشغلون بأمورهم اليومية، يتأهبون للإفطار في أول أيام رمضان.
على أبواب المدينة، ظهر رجل غريب. كان يبدو منهكًا، لكنه لم يكن كسائر الغرباء. وجهه يشع بنور هادئ، وعيناه تحملان عمقًا يصعب تفسيره. يرتدي ثيابًا بسيطة، لكن هيبته جعلت كل من رآه يتوقف للحظة وكأن الوقت تجمد.
دخل المدينة بهدوء، يطرق أبوابها بنظراته لا بكلماته. كان يتنقل من زقاق إلى آخر، يتفحص الوجوه، وكأنما يبحث عن شيء خفي.
في السوق، كان الناس يبيعون ويشترون، مشغولين في صخب التجارة. توقف الغريب عند بائع عجوز كان يجلس على الأرض، يبيع تمرًا بائسًا في إناء صغير.
قال له بصوت هادئ:
"هل تزن بالعدل؟"
تفاجأ العجوز بالسؤال وقال:
"بالتأكيد، لا أبيع إلا بالعدل، لماذا تسأل؟"
ابتسم الغريب وقال:
"لأن في العدل بركة، وإن نقصت موازينك غابت البركة عنك وعن رزقك."
تركه الغريب ومضى، لكن كلماته بقيت عالقة في ذهن العجوز، الذي بدأ يتفحص نفسه وحساباته.
في طريقه، لمح صبيًا صغيرًا ينظر من نافذة بيته. كان الصبي نحيلًا، وعيناه تحملان حزنًا عميقًا. رفع الغريب يده ولوّح له بابتسامة. نزل الصبي مسرعًا من البيت، جرى نحوه وقال:
"هل تعرفني؟"
أجابه الغريب:
"بل أعرف حزنك، وأعرف أن في قلبك رجاءً لم يتحقق."
اندهش الصبي وسأله:
"وكيف عرفت؟"
قال الغريب:
"كل من يسكن نافذة الانتظار لديه حلم يريد تحقيقه. أقم صلاتك، واطلب من الله، فإنه يجيب دعاء الصادقين."
اختفى الغريب بين الزحام، تاركًا الصبي في حيرة وشوق لأن يحكي لأهله عما حدث.
مع حلول الليل، جلس الغريب في مسجد صغير عند أطراف المدينة. بدأ الناس يتوافدون، يسألونه عن هويته، لكنه لم يُجب على أسئلتهم إلا بحكم عميقة:
"من عرف نفسه عرف ربه."
"لا شيء أوسع من رحمة الله، ولا شيء أضيق من قلب يحمل الكراهية."
كانت كلماته مثل الماء البارد في نهار صيف، توقظ القلوب المتعبة. اجتمع أهل المدينة حوله يومًا بعد يوم، يتبادلون القصص والتجارب، وكأن وجوده أزال الحواجز بينهم.
وفي ليلة من ليالي رمضان، اختفى الغريب كما ظهر، دون أن يودّع أحدًا. بحثوا عنه في كل مكان، لكن لم يجدوه. ترك خلفه أثرًا عميقًا في قلوبهم. بدأ التجار يزنون بالعدل، وبدأ الناس يتصدقون على الفقراء، وأصبحت البيوت مليئة بالتسامح والرحمة.
أصبح الغريب حديث المدينة لأيام طويلة، وأيقنوا أنه لم يكن مجرد إنسان عابر، بل رسالة من الله ليعيدهم إلى الطريق المستقيم.
هكذا، ظل الناس يتحدثون عنه كأنه أسطورة، لكن أثره كان حاضرًا في كل زاوية من حياتهم، يذكرهم بأن أبواب التغيير تبدأ من أبواب القلوب.
الكاتب : إدريس أبورزق
تعليقات
إرسال تعليق