القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة " ممرات الروح المخفية " الكاتب : إدريس ابورزق 

الحلقة الثانية : محكمة اللاشيء

استيقظ "يوسف" على صوت طرقات قوية على باب غرفته. كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا، والعالم من حوله مغمور في صمت ثقيل. فتح الباب بحذر ليجد أمامه رجلًا يرتدي رداءً أسود طويلًا ووجهًا مغطى بقناع أبيض بلا ملامح.
قال الرجل بصوت عميق خالٍ من أي نبرة: "لقد تم استدعاؤك للمحكمة. لديك خمس دقائق للاستعداد."
ارتبك يوسف وسأله: "محكمة؟ أي محكمة؟ من أنت؟ ماذا فعلت؟"
لكن الرجل لم يرد. أشار فقط إلى ممر طويل لم يكن موجودًا في شقته من قبل. بدا كأنه ينتمي إلى عالم آخر.

دفعه فضوله وخوفه إلى اتباع الرجل، وبعد خطوات قليلة، وجد نفسه في قاعة محكمة شاسعة، سقفها لا يظهر، وجدرانها تمتد إلى ما لا نهاية. كان المكان يعج بأصوات هامسة، كأنها أصوات بشرية، لكنها غير مفهومة. في المقدمة، جلس قاضٍ ضخم خلف منصة عالية، وجهه مغطى بنفس القناع الأبيض. إلى جانبه هيئة محلفين، وجوههم مخفية، عيونهم تنظر إليه بثبات مرعب.

"يوسف"، نطق القاضي باسمه كأنه يعرفه منذ الأزل. "أنت متهم."
صاح يوسف بارتباك: "متهم بماذا؟ ماذا فعلت؟"
لكن القاضي لم يجب مباشرة. التفت إلى أحد الشهود، رجل ضئيل البنية يرتدي ملابس قديمة، وقال: "قدم شهادتك."

بدأ الشاهد بالكلام، لكن اللغة التي تحدث بها كانت غريبة. أصواتها أقرب إلى صدى ينبعث من أعماق بئر. مع ذلك، شعر يوسف أنه يفهم المعنى، كأن الكلمات تُترجم مباشرة داخل ذهنه:
"لقد كان خائفًا دائمًا من اتخاذ القرار. ترك الفرص تمر أمامه، ولم يتحرك. كان حيًا، لكنه لم يعش."
يوسف شعر بثقل الكلمات. كانت الحقيقة تخترقه كخنجر. حاول أن يعترض: "لكن… أنا لم أكن أعلم ماذا أفعل! كنت أحتاج إلى الوقت!"
القاضي قاطعه بصوت صارم: "الصمت! الشاهد التالي."

ظهر شاهد آخر، هذه المرة كانت امرأة تحمل وجهًا غير واضح المعالم، كأن ملامحها تتغير باستمرار. تحدثت بصوت ناعم لكنه مثقل بالحزن:
"لقد وعدني بأشياء كثيرة، لكنه لم يحقق شيئًا. كان يتراجع دائمًا عند الخطوة الأخيرة. ظننت أنني كنت السبب، لكنني أدركت لاحقًا أن الخوف كان يحكم حياته."

يوسف شعر بأن القاعة تدور من حوله. أدرك أن المحكمة لم تكن محاكمة عن جريمة محددة، بل عن حياته بأكملها، عن الخيارات التي لم يتخذها، وعن الشجاعة التي افتقدها في اللحظات المصيرية.

"من أنتم؟ ولماذا أنا هنا؟" صرخ يوسف، محاولًا كسر الغموض الذي يخنقه.
أجاب القاضي أخيرًا: "نحن انعكاسك. نحن أصوات اللاوعي التي كنت تتجاهلها. أنت الآن في محكمة اللاشيء، حيث نحاسبك على كل ما لم تفعله."

صمت يوسف. كانت الكلمات مثل صفعة قاسية. رأى حياته تمر أمام عينيه، كل لحظة جبن، كل فرصة ضاعت، كل وعد لم يوفِ به. شعر بالاختناق، لكنه أدرك أن الدفاع الوحيد المتاح له هو الصدق مع نفسه.

وقف يوسف وقال بصوت مرتعش: "نعم، كنت جبانًا. نعم، خفت من الفشل. لكني أريد فرصة أخرى. أريد أن أكون مختلفًا. لا أريد أن أعيش بهذا الندم."

ابتسم القاضي للمرة الأولى. كان شيئًا مرعبًا، لكن فيه لمحة من رحمة غامضة. قال: "لقد تم سماعك. الحكم الآن في يدك."

فجأة، عاد يوسف إلى سريره. كانت الساعة لا تزال الثالثة فجرًا. الغرفة كما هي، لا ممرات ولا محكمة. لكن داخله كان مختلفًا. شعر كأنه عاد من معركة مع ذاته. كان يعرف أنه أمام خيارين: أن يتغير، أو أن يعود إلى المحكمة مجددًا، في وقت لا يعرفه.

تعليقات