الحلقة الرابعة : اللحظة التي لم تحدث
في كل ليلة، يجلس "سليم" على كرسيه الخشبي المهترئ في شرفته الضيقة، يحدق في الشارع ذاته، في النافذة ذاتها، في الفراغ ذاته. يعرف تمامًا أن شيئًا لم يتغير، ومع ذلك، ينتظر… كأن الزمن قد علِق هناك، عند تلك اللحظة التي لم تحدث.
قبل عشر سنوات، وقف عند محطة القطار، ممسكًا بهاتفه، يقرأ رسالة من "ليلى". كانت الكلمات واضحة، لكنها في الوقت نفسه بدت كأنها تائهة بين سطور لم تُكتب:
"سأكون هناك في الخامسة… إذا أتيت، سأعرف أنك ما زلت تريدني… وإذا لم تأتِ، فلن أسألك لماذا."
كانت الساعة 4:55 مساءً. خمس دقائق فقط، خمس دقائق قررت كل شيء.
لكنه لم يذهب.
في كل مرة يحاول تبرير ذلك، يصطدم بجدار نفسه. هل كان خائفًا من الحب؟ من المسؤولية؟ أم من شيء آخر لا يستطيع تسميته؟
كل ليلة، يعيد رسم تلك اللحظة في رأسه، يغير قراراته، يتخيل نفسه يركض نحو المحطة، يرى ليلى واقفة هناك، يرى عينيها تتسعان بالدهشة، ثم بالفرح، ثم… ماذا بعد؟ هل كانا سيعيشان قصة حب عظيمة؟ أم أن الزمن كان سيبتلعهما كما يبتلع الجميع؟
يضحك بمرارة. الزمن ليس العدو، العدو هو التردد.
لكنه لم يذهب.
في إحدى الليالي، بينما كان يجلس على شرفته، حدث شيء غريب. رأى ظلًا يقف في الشارع، تحت عمود الإنارة المهتز، ظلًا يشبهه تمامًا. كان يرتدي معطفًا قديمًا، شبيهًا بذلك الذي كان يرتديه يوم تلقى رسالة ليلى.
تجمدت أنفاسه. كان ذلك هو، لكن من زمن آخر… من لحظة أخرى… من احتمال لم يتحقق.
وقف "سليم" يحدق في نفسه الأخرى، بينما قال الظل بصوت لم يكن إلا صدى صوته الداخلي:
"لو كنت قد أتيت، هل كنت ستكون سعيدًا؟"
بلع ريقه، لم يعرف كيف يجيب. كل تلك السنوات، وهو يسأل نفسه السؤال ذاته، والآن عندما جاءته الإجابة، لم يعرف إن كان يريد سماعها.
"أخبرني… ماذا حدث لو أنني جئت؟"
لكن الظل لم يرد. فقط ابتسم… ثم استدار ومشى، تاركًا خلفه صمتًا أثقل من الحقيقة.
في اليوم التالي، قرر "سليم" أن يكسر الدائرة. خرج من شقته لأول مرة منذ وقت طويل، سار في الشوارع التي نسي شكلها، حتى وصل إلى المقهى القديم حيث اعتاد أن يلتقي ليلى.
هناك، وجدها.
كانت تجلس على الطاولة ذاتها، تحتسي قهوتها، لكنها لم تكن وحدها. رجل آخر كان يشاركها الجلسة، يضحك معها، يمسك يدها بحميمية واضحة.
في تلك اللحظة، أدرك أن الزمن لم يتوقف عند لحظته الضائعة، بل مضى… مضى دون أن ينتظره.
لكن شيئًا داخله لم يكن مستعدًا للقبول. اقترب بخطوات بطيئة، كأن عقله لم يعد قادرًا على تمييز الحقيقة من الاحتمال، وعندما لاحظته ليلى، تجمدت عيناها لثانية… ثم ابتسمت، وكأنها تراه شخصًا آخر… شخصًا لم تعد تعرفه.
"هل تأخرتُ كثيرًا؟" سألها بصوت بالكاد خرج منه.
حدقت فيه للحظة، وكأنها تبحث عن شيء ما، ثم أجابت بهدوء:
"لماذا تسأل عن شيء انتهى؟"
وفي تلك اللحظة، أدرك "سليم" أن بعض اللحظات لا تمنح فرصة ثانية… وأنه، أخيرًا، لم يعد ينتظر شيئًا.
تعليقات
إرسال تعليق