الحلقة الأولى : القطار الذي لا يصل أبدًا
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل عندما صعد آدم إلى القطار. المحطة كانت مهجورة، لا أثر لأحد غيره، والهدوء يلف المكان كغلاف من الخوف. القطار ظهر فجأة، دون أي إعلان مسبق، بابه انفتح بصمت وكأنه يدعوه للدخول. لم يكن لدى آدم وجهة محددة، فقط رغب في الهروب من نفسه ومن المدينة التي أصبحت خانقة.
جلس قرب نافذة، لكنه لاحظ أن الزجاج معتم. لا يستطيع رؤية الخارج، وكأن القطار يسير عبر فراغ أبدي. الهدير المنتظم للعجلات كان الصوت الوحيد الذي يرافقه. نظر حوله، فوجد الركاب موزعين في المقاعد، بعضهم غارق في التفكير، وبعضهم يحدق في الفراغ بعينين خاليتين من الحياة. حاول أن يتبادل النظرات مع أحدهم، لكنه شعر أن الجميع يتجنب التواصل، وكأنهم يعيشون في عوالم منفصلة.
بعد دقائق، مر بائع التذاكر. كان مظهره غريبًا؛ عيناه عميقتان بشكل غير طبيعي، ووجهه جامد بلا أي تعبير.
قال آدم مترددًا: "إلى أين يتجه القطار؟"
أجاب البائع بصوت خافت: "الوجهة ليست مهمة، ما يهم هو الرحلة."
"لكن… متى سنصل؟"
نظر إليه البائع بنظرة غامضة وهمس: "لا أحد يصل هنا." ثم تابع طريقه دون أن يضيف شيئًا.
أحس آدم بقشعريرة تسري في جسده. حاول أن يسأل الركاب، لكن كلما اقترب من أحدهم، كان يواجه صمتًا مخيفًا، وكأن أسئلته غير مسموح بها.
مع مرور الوقت، بدأ آدم يلاحظ شيئًا غريبًا. الوجوه من حوله تغيرت، لم تعد ملامح الركاب كما رآها أول مرة. بعضهم بدا شاحبًا أكثر، وكأن الحياة تُسحب منهم تدريجيًا، بينما البعض الآخر بدا وكأنه عاد إلى شبابه. كان الزمن يعبث بالجميع، إلا آدم. شعر وكأنه ثابت بينما الباقون ينزلقون نحو نهايات مجهولة.
حاول أن ينظر إلى الخارج مرة أخرى، لكن الزجاج كشف له لمحات خاطفة: مدنًا غريبة مدمرة، أشخاصًا يقفون على الطرقات يلوحون كأنهم يستنجدون، وحقولًا من الظلال التي تتحرك ببطء. المشاهد كانت تتغير بسرعة، وكأنها تُعرض له قصصًا متداخلة بلا ترتيب منطقي.
جلس بجانب رجل عجوز بدا مستعدًا للكلام. همس العجوز: "أنت جديد هنا، أليس كذلك؟"
"نعم، لكن لا أفهم… إلى أين نحن ذاهبون؟"
ابتسم العجوز بسخرية حزينة: "لا أحد يعرف. القطار ليس مكانًا، بل حالة. نحن لسنا أحياء تمامًا، ولسنا أمواتًا. نحن عالقون."
"عالقون؟ بين ماذا؟"
"بين ما كنا عليه وما سنكونه. كل منا هنا لأنه لم ينتهِ بعد. هذا القطار هو انتظار طويل لأولئك الذين لم يجدوا سلامهم مع الحياة."
شعر آدم بثقل الحقيقة. تذكر فجأة حادثة وقعت في حياته: تلك الليلة المظلمة، الحادث الذي كاد يودي به، لكنه نجا بأعجوبة. هل هو هنا لأنه لم يعش فعلاً منذ ذلك الحادث؟ أم أن هذا القطار يحمل روحه التي رفضت المغادرة؟
بينما كان القطار يسير بلا توقف، بدأ الركاب يختفون واحدًا تلو الآخر. كلما واجه أحدهم لحظة صدق مع نفسه، اختفى فجأة وكأن القطار أطلق سراحه.
وفي لحظة هدوء، سمع صوتًا داخله: "ما الذي يجعلك تبقى؟"
أغمض عينيه، واجه كل مخاوفه، كل القرارات التي هرب منها، كل الأحلام التي تخلى عنها. القطار كان امتحانًا، مكانًا للغوص في أعماق الروح.
تعليقات
إرسال تعليق