الحلقة الأولى : بين شروق وأفول
"كانت صباحات 'مها' تشبه البداية... دائمًا مفعمة بالضوء."
مها، فتاة تحمل في داخلها نشوة كل شيء يبدأ. تعشق الفجر لأنها ترى فيه وعدًا جديدًا بالفرح. في نظرها، البدايات ليست مجرد أوقات بل ولادات متكررة؛ علاقة جديدة، عمل جديد، صفحة بيضاء. حتى عندما أخفقت مراتٍ كثيرة، كانت تؤمن أن كل إخفاق هو خطوة لبداية أكثر جمالًا.
في داخل غرفتها، عُلّقت لوحة كبيرة كُتب عليها: "الشروق دائمًا يختبئ خلف الليل الطويل."
بهذا الشعار عاشت حياتها. علاقاتها بدأت باندفاع عاطفي هائل لكنها كانت تذبل حين تنجرف نحو الثبات. تقفز من حبٍ إلى حب، من شغفٍ إلى آخر، وكأن قلبها لا يسكنه سوى سعي مستمر للمجهول.
"الأهم هو البدء، فالركود موت" كانت تقول لنفسها دائمًا.
على النقيض، هناك 'يونس'. رجل مهووس بالنهايات، متشبع بفلسفتها. يراقب غروب الشمس وكأنه يقف على قبر لحظاته الفانية. يرى في الغروب جمالاً يفوق كل بداية.
كان يونس يكره الفوضى التي تُحدثها البدايات. في حياته، أي قرار يتخذه لم يكن وليد اندفاع، بل هدوء النهاية القريب. يونس لم يكن يحب... بل يودّع منذ اللحظة الأولى، وكأن كل شيء مؤقت في عينيه.
"لماذا تنبهرون بالبدايات؟ أليست البداية مجرد خدعة تصنعها أمانينا؟"
يقول هذا في كل حوار، معتقدًا أن الراحة الحقيقية هي في الختام حيث تسود الحكمة، لا الغليان.
التقى مها ويونس في لقاء عابر بأحد معارض الفن، أمام لوحة تمثل شروقًا وغروبًا على نفس البحر. كانت اللوحة تنقسم لجزأين متناظرين، نصفها الأيسر مغمور بنور الشمس الوليد، أما نصفها الآخر فتكسوه ألوان الحزن التي يتركها الغروب خلفه.
مها، بابتسامة أمل طفولية، علّقت:
"يا له من جمال البدايات، أليس هذا الشروق وعدًا بأن هناك يومًا جديدًا قادمًا؟"
بينما التفت يونس نحوها بابتسامة غامضة، وأجاب:
"بل الغروب أجمل. هو الفاصل الحقيقي. فيه يتحقق السكون الذي نفتقده وسط جنون البداية."
ذلك الاختلاف أثار شرارة غريبة بينهما. ورغم كونهما متناقضين في فلسفاتهما، إلا أن الأيام جمعتهما معًا. بدأت مها ترى في يونس دهاء الغروب الذي يأبى أن يبدأ مجددًا، وبدأ يونس يرى في مها شجاعة من تتشبث بكل شروق.
كانت مها تعيش علاقة حبّها مع يونس كمن يرسم لوحة غير مكتملة. كل يوم تضيف إليها لونًا جديدًا؛ تحاول أن تجعلها زاهية بكل الطرق. أما يونس، فكان يرسم نفسه خارج اللوحة، ينتظر اللحظة التي يترك فيها اللوحة خلفه ويختفي.
"كيف يمكنك أن تبدأ يومًا جديدًا دون أن تنهي اليوم الذي قبله؟" قال لها يومًا بغموض.
كانت مها تنظر إليه وكأنها تقرأ كتابًا قديمًا صعب الفهم:
"أنت تخاف من البداية يا يونس. كل ما تفعله هو تأجيلها عبر انتظار النهاية."
في تلك اللحظة، أدركت مها أن يونس كان أشبه بغروبٍ حي. وجوده يعكس الجمال الهادئ للنهاية، لكنه لا يحمل الأمل الذي تحتاجه البدايات.
مرت أيام طويلة، وأدرك كلاهما أن اختلاف فلسفتيهما كان فجوة عميقة يصعب سدّها. اختار يونس الانسحاب في صمت كما يفعل دائمًا، بينما وقفت مها أمام الأفق، ترقب شروق الشمس كما اعتادت. عيناها تحملان غيوم الحزن، لكنها هذه المرة رأت شيئًا مختلفًا في الغروب الذي ودّعته.
همست لنفسها بصوتٍ بالكاد تسمعه الرياح:
"ربما النهايات ليست مرعبة كما كنت أظن. فالغروب لا يطفئ النور، بل يهمس للشروق ليعيد خلقه من جديد. هكذا أكون أنا؛ وُلدت من الغروب كما ولدت من الشروق."
وفي مكانٍ بعيد، جلس يونس تحت سماء شاحبة وهو يتأمل الغروب الذي لطالما أحبّه. بدا وكأن البحر يبتلع قرص الشمس ببطء. ابتسم لنفسه وقال بصوتٍ خافت، وكأن مها تسمعه في غيابه:
تعليقات
إرسال تعليق