الحلقة الثالثة : الحياة بعد الموت
"لم أعد أشعر بأي شيء... حتى الألم صار مجرد فكرة."
فتح "سليم" عينيه على ضوء رمادي بارد، كأن الشمس لم تشرق يومًا. الجدران ذاتها، الأثاث ذاته، حتى صوت عقارب الساعة ذاته، لكنه كان مختلفًا. تحسس نبضه، فوجده بطيئًا، كأن قلبه يؤدي واجبًا لا يرغب به.
خرج إلى الشرفة. الشارع مزدحم كما كان دائمًا، لكن الضوضاء كانت خافتة. رأى الناس يمرون أمامه كأشباحٍ باهتة. أراد أن يصرخ، أن يثبت وجوده، لكنه شعر أن صوته لن يصل.
عاد إلى الداخل، أمسك هاتفه... لا مكالمات، لا رسائل. كأن الحياة تمضي بدونه، رغم أنه لم يمت... أو ربما مات بطريقة أخرى.
مرّ أسبوع، ثم شهر، ثم عام. لم يلحظ أحد اختفاءه. كان يذهب إلى العمل، يجلس في المكتب ذاته، يؤدي المهام المطلوبة منه، لكن لم يلتفت إليه أحد. حتى زملاؤه كانوا يتحدثون حوله وكأنه مجرد فراغ. حاول أن يقاطعهم ذات مرة، لكنه أدرك فجأة أن صوته لا يحدث أي صدى، وكلماته تتلاشى قبل أن تصل إليهم.
بدأ يشعر أن الحياة ليست أكثر من مشهد سينمائي يراقبه، لكنه ليس جزءًا منه. كان يلمس الأشياء، لكنه لم يعد يشعر بها، يأكل دون أن يتذوق، يضحك دون أن ينبض قلبه بالفرح.
"هل أنا ميت؟" سأل نفسه مرارًا، لكنه كان يعلم أن الإجابة أكثر تعقيدًا من ذلك.
في إحدى الليالي، جلس في المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه. كانت الأضواء باهتة أكثر من المعتاد، ورائحة القهوة التي طالما عشقها لم تعد تثير فيه شيئًا.
وهناك، التقى بها.
"أنت أيضًا أحدهم، أليس كذلك؟" قالت الفتاة التي جلست أمامه دون مقدمات.
نظر إليها بدهشة، لكنه شعر بشيء غريب... هي ليست مثل الآخرين، ليست باهتة. كان يمكنه رؤيتها بوضوح، كأنها جزء من عالمه.
"ماذا تقصدين؟" سألها.
ابتسمت ابتسامة لم يعرف هل هي ساخرة أم حزينة. "أنت تمشي، تتحدث، تأكل، تعمل... لكنك لم تعد حيًا. أنت مثلنا."
شعر بقشعريرة باردة. "من أنتم؟"
"الأشباح الحية." قالتها وهي تحرك ملعقتها في كوب القهوة دون أن تشرب. "نحن الذين فقدنا المعنى، الذين لم يعد لدينا سبب للبقاء، ومع ذلك لم نغادر."
في تلك الليلة، سار في الشوارع بلا هدف. كان يراقب وجوه المارة، محاولًا أن يميز من منهم "ميت" مثله، ومن لا يزال يحمل شعلة الحياة.
وفجأة، رأى رجلاً يقف على حافة جسر. كان جسده يهتز مع الرياح، وعيناه تحملان نظرة شخص قرر الرحيل.
اقترب منه ببطء. "لا تفعل."
نظر الرجل إليه بدهشة. "لماذا؟ ما الفرق بيني وبينك؟"
سليم لم يعرف بماذا يجيبه. كان يمكنه أن يقول له أن الحياة تستحق، أن هناك أملًا، لكنه شعر أن الكلمات ستكون كذبة كبيرة. الرجل كان يراه. إذن، هو أيضًا أحد "الأشباح الحية".
"أنت مثلي..." قال الرجل بصوت خافت، ثم ابتسم. "لكني قررت ألا أظل شبحًا."
ثم، وبكل بساطة، أغمض الرجل عينيه وسقط في الفراغ.
في تلك الليلة، عاد سليم إلى شقته وأمعن النظر في المرآة. رأى وجهه... لكن لم يرَ نفسه.
تذكَّر كل الأشياء التي فقدت معناها. السنوات التي عاشها دون أن يشعر بشيء. أدرك أن السؤال لم يكن أبدًا "هل هو ميت؟" بل "لماذا لم يغادر بعد؟"
كانت لديه فرصة ليصبح مثل ذلك الرجل، أن يختفي نهائيًا، لكنه أدرك فجأة أنه لم يعد يريد ذلك.
في الصباح التالي، استقال من عمله، حزم حقيبته، وسافر إلى مدينة لا يعرف فيها أحد. قرر أن يعيد اكتشاف الحياة، أن يبحث عن شيء يجعله يشعر مرة أخرى.
وحين خرج إلى الشارع، شعر بنور الشمس على بشرته، وكأنه للمرة الأولى منذ زمن طويل، بدأ يحيا مجددًا.
تعليقات
إرسال تعليق