لم تعد فكرة التهجير مجرد تسريبات إعلامية أو تصريحات هامشية في سياق الحرب، بل باتت جزءًا من الخطاب السياسي الصادر عن الدوائر القريبة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في لحظة داخلية حرجة يعيشها على وقع أزمات متشابكة: تحقيقات فساد، انقسام سياسي غير مسبوق، احتجاجات مستمرة، وتراجع ثقة المؤسسة الأمنية في قدرته على إدارة المشهد. ومن هنا يمكن فهم عودة خطاب “التهجير” إلى الواجهة بوصفه محاولة لصناعة واقع بديل يشتّت الانتباه عن أزمة الحكم عبر تصديرها إلى الخارج.
في تصريحات إسرائيلية متكررة خلال الفترة الأخيرة، عاد الحديث عن “ترتيبات أمنية” مرتبطة بـ معبر رفح، وعن “فتح منظّم” للمعبر في سياقات تبدو إنسانية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها منطقًا مختلفًا: تحويل الضغط العسكري والسياسي إلى مسار إداري يتهيأ لسيناريو إفراغ غزة من سكانها تدريجيًا تحت أي لافتة—إغاثية أو أمنية. ويكشف هذا الخطاب عن مفارقة صارخة؛ إذ تُستخدم اللغة الإنسانية لتبرير نتائج غير إنسانية، في إحياء صريح لمنطق التهجير القسري الذي يجرّمه القانون الدولي ويصنّفه كجريمة حرب.
محاولات تسويق التهجير لا تنفصل عن حالة التآكل الداخلي التي يعيشها نتنياهو سياسيًا. فالرجل الذي دخل الحرب مدفوعًا بهاجس البقاء في السلطة، يسعى اليوم إلى توسيع إطار الأزمة ليحوّلها من مساءلة داخلية إلى “صراع وجودي” خارجي. وبذلك تتحوّل غزة إلى مسرح لإعادة تشكيل الرواية—ليس فقط أمام الرأي العام الإسرائيلي، بل أيضًا أمام المجتمع الدولي—بما يسمح بإعادة إنتاج شرعية مفقودة عبر صناعة عدو دائم أو أزمة مستدامة.
الأخطر في هذا السياق أن التصريحات الإسرائيلية حول معبر رفح لا يمكن فصلها عن تصور أوسع لإعادة هندسة الديموغرافيا السياسية للقطاع. فحين تُربط الإغاثة بالترحيل، ويُشرط الأمان بالمغادرة، يصبح “الخيار الإنساني” قناعًا لسياسة قسرية. وهذا يعكس نهجًا براغماتيًا متطرفًا يرى في الإنسان ورقة تفاوض لا قيمة ثابتة، وفي الجغرافيا أداة ضغط لا وطنًا.
داخليًا، يدرك نتنياهو أن أي وقف حقيقي للحرب يعني عودة فورية إلى طاولة الحساب: ملفات قضائية مفتوحة، شركاء ائتلاف قابلون للانقلاب، وشارع إسرائيلي يتساءل عن الكلفة والجدوى. لذلك، فإن إبقاء التوتر في أقصاه مستوى ممكن يخدم استراتيجية “الهروب إلى الأمام”؛ حيث تغدو الحرب غطاءً دائمًا لتعليق السياسة، ويصبح التهجير إحدى أدوات إدامتها.
أما دوليًا، فإن الرهان على إنهاك الإرادة الدولية عبر الزمن والوقائع على الأرض يبدو حاضرًا بقوة. فكل يوم يمر مع تثبيت خطوط تهجير واقعية—حتى دون قرار رسمي—يُعد مكسبًا تكتيكيًا في ميزان فرض الأمر الواقع. غير أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر؛ إذ إن انكشاف الهدف الحقيقي يُحوِّل التعاطف العالمي إلى مساءلة، ويعيد تعريف إسرائيل من “دولة تدافع عن نفسها” إلى سلطة احتلال تطبّق سياسات تطهير ديموغرافي.
في المحصلة، ليست “التهجير القسري” سياسة أمنية بقدر ما هي رافعة سياسية داخلية لنتنياهو؛ آلية للهروب من أزمته لا لمعالجة جذور الصراع. لكنها، في الوقت ذاته، مقامرة مكلفة قد ترتد عليه سياسيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا. فالمشهد اليوم يقول إن من يحاول إنقاذ نفسه بإحراق الجغرافيا، إنما يوقّع على عزلة أوسع ومساءلة أقسى، مهما طال زمن الإفلات المؤقت من الحساب.

تعليقات
إرسال تعليق