بقلم د كامل عبد القوي النحاس
مقدمة تحريرية
في زمن يكثر فيه الخلط بين التدين الحقيقي والهروب من الواقع.
وبين العمل بوصفه عبادة، والتعلق بالغيب بوصفه وهمًا.
تبرز الحاجة إلى إعادة طرح السؤال الجوهري:
أين يقف الإنسان من المسؤولية التي أقامه الله فيها؟
هذه القصة الواقعية، التي عُرضت بصياغة درامية دون ذكر أسماء،
لا تناقش أشخاصًا بعينهم، بل تكشف أثر ترك التخصص، وهدر القيمة.
حين يُساء فهم الدين، فيُنزَع من سياقه العملي، ويتحوّل من طاقة بناء إلى ذريعة انسحاب من الواقع والإنتاج.
لم يكن المصنع مجرد مبنى من حديد وصخر، بل كان عقلًا نابضًا على الأرض.
في شق الثعبان، حيث تختبر الصناعة صبر الحجر وصلابة الرجال،
وقف مصنع الجرانيت كجبل من الفكر والحياة، تتحرك خطوط إنتاجه بتناغم، كل آلة تعرف دورها، وكل عامل يعرف وقته.
الجرانيت المصري كان يخرج من بين الأيدي منتجًا يُحتفى به سوقيًا وجماليًا، وكأن الطبيعة نفسها خضعت لإرادة إنسان أحسن فهمها وتسخيرها.
لم يكن الرجل مجرد صاحب مصنع، بل قائدًا لمجتمع صغير، يختار رجاله بعناية، يقدّر الجهد، ويكافئ الإخلاص.
كان المصنع كيانًا حيًا، إذا غاب رأسه شعر الجسد كله بالبرد.
كنت أزوره كثيرًا بحكم عملي فى توريد وتركيب الرخام والجرانيت.
لم تكن جلساتنا تجارة فقط، بل تبادل خبرات، تقارب أفكار، ثقة متراكمة، ومودة صادقة.
ثم غاب.
قيل: مشروع جديد.
لكن السنوات لا تمر بلا أثر.
تراجعت الجودة.
لم تعد المواعيد تُحترم.
تاهت المسؤوليات.
وصارت خطوط الإنتاج تبحث عن قائدها المفقود.
كان واضحًا أن العقل الذي كان يُمسك بالخيوط قد تركها.
ثم عاد.
لكن شيئًا ما كان قد مات في داخله.
وجه شاحب، جسد منهك، وعينان لا تثبتان على شيء.
سألته عن حاله ؟ عن غيبته؟ عن مصنعه الذى تدهور حاله؟
قال بهدوء بارد إنه تفرغ لدراسة القرآن بالأرقام.
يبحث عن موعد قيام الساعة، وعن نتائج لم يسبق إليها أحد.
رجل يعرف الحجر والعقل والمال، لكنه ضل الطريق.
استرسل بلا توقف، يخلط بين المعاني، يستشهد بآيات لا يحسن قراءتها فضلا عن فهمها.
وكأن القرآن مرّ على ذهنه مرور الأرقام على آلة.
حاولت مقاطعته، فلم يمنحني فرصة.
قلت له مقاطعا وبصراحة قاسية:
كفى عبثًا.
أي دين هذا الذي يُدخل بلا علم ولا أداة؟
أين أنت من تخصصك؟
من مصنعك؟
من العمال الذين تتوقف أرزاقهم عليك؟
تركت ما أُقامك الله لأجله، لتغرق في وهم لا يثمر.
وتركت فقراء كان يمكن أن يعيشوا من عملك.
وتركت طلاب علم كان يمكن أن تصل إليهم زكاتك وصدقتك من ربحك وإنتاجك.
قلت له بوضوح:
خلقك الله صانعًا، منتجًا، رائدًا في مجالك.
هنا موضعك، وهنا قيمتك، وهنا تحتاجك الناس.
كل ساعة قضيتها في مطاردة الغيب بلا علم،
كان يمكن أن تُستثمر في
بناء وطن،
وتوفير فرص عمل،
وتحريك اقتصاد،
وإعانة فقراء،
ونشر خير حقيقي.
هذا هو الدين في صورته العملية.
نظر إليّ وكأنني هدمت صنمًا مقدسًا داخله.
انتهت الجلسة.
وانقطع.
ثم غاب.
انهار المصنع.
خطوط الإنتاج تعطلت.
الجودة اختفت.
المواعيد انتهت.
ثم جاء الآخرون.
عمال أجانب،
صينيون في الغالب،
ومعهم أيدٍ مصرية تابعة.
إنتاج غزير.
أسعار محروقة.
روح غائبة.
الصناعة المحلية تموت.
الاسم اختفى.
اللافتة تغيّرت.
والمكان صار مجرد عقار مؤجّر،
يدر القليل بعد أن ضاع الخير كله.
ومضت سنوات.
ثم قُسِّم المصنع إلى عدة مصانع.
أسوار تفصل بين الأقسام.
رجال جدد.
إنتاج بلا روح.
آلات تدرّ المال بلا رسالة.
رجل ترك موضعه.
ترك تخصصه.
ترك قيمته.
ترك أثره.
فتحولت حياته، وتركته، إلى ذكرى ضائعة.
العبرة:
أخطر ما يمكن أن يفعله الإنسان:
أن يترك ما أُقيم له.
أن يهرب من الواقع إلى وهم.
أن يخوض فيما لا يعرفه.
أن يضيّع فرص الإنتاج والعمل والاقتصاد.
العمل المتقن عبادة.
والإنتاج المحسن دين.
والأثر النافع صدقة جارية.
أما التوهّم في الغيب بلا علم،
فيهدر الأمانة،
ويقتل القيمة،
ويُسقط الإنسان من مقامه.
قف حيث أقامك الله.
وأحسن فيما تُتقنه.
ولا تهرب من تخصصك.
ولا تُضيّع وجودك في وهم
بلا خريطة ولا أداة.
هذه القصة واقعية، عُرضت بصياغة درامية، وغُيّبت الأسماء عمدًا.
د #كامل_النحاس

تعليقات
إرسال تعليق