القائمة الرئيسية

الصفحات

أبوالياسين : حرب ترامب على الكونغرس .. فزاعة "معاداة السامية" تتحول إلى سلاح سياسي









الإخبارية نيوز : 

في مشهدٍ يُجسّد الانزياح الأخير في السياسة الأمريكية من التنافس إلى التجريح، ومن النقد إلى التخوين، وقف الرئيس دونالد ترامب اليوم الأربعاء 17 ديسمبر 2025 ليطلق صافرة الحرب الأخلاقية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ العلاقة بين البيت الأبيض والكابيتول. لم يكن خطابه مجرد دفاع عن حليفٍ تقليدي، بل كان إعلاناً صريحاً عن نهاية العُرف السياسي القديم، وتحويلاً استراتيجياً لسلاح "معاداة السامية" من درعٍ لحماية أقلية مضطهدة إلى سيفٍ مشهرٍ ضد المؤسسة التشريعية بأكملها. في تصريحاتٍ هزت أروقة واشنطن، اتهم ترامب الكونغرس بأنه "أصبح معادياً للسامية"، مُعلناً في الوقت ذاته أن "زمن نفوذ اللوبي اليهودي التقليدي انتهى". هذه العبارات لم تكن عفوية، بل هي الضربة الأخيرة في معركة إعادة تعريف الولاءات، وتصوير أي معارضة على أنها خيانة لقيم أمريكا العميقة.


استراتيجية الفزاعة: لماذا الآن؟

يأتي توقيت هذا التصريح ليُضيء على حالة الاضطراب الاستراتيجي داخل إدارة ترامب، وليكون رداً مُحكماً على "الانقسامات الداخلية" التي كشفتها رئيسة الأركان سوزي وايلز في مقابلة الأمس. بعد أن وصفت وايلز وجود "تخبط" و"خلافات" حول ملفات حساسة، ووصفت نائب الرئيس جيه دي فانس بـ"منظر المؤامرة"، خرج ترامب ليستعيد زمام المبادرة عبر إشعال حريق خارجي. إنه تحويل ذكي للقصة من فوضى البيت الأبيض إلى حرب وجودية ضد "العدو الداخلي" في الكونغرس. التركيز على إسرائيل هنا ليس دفاعاً عن حليف بقدر ما هو استعادة للهوية السياسية التي بنى عليها ترامب شعبيته: الهجوم على "الديمقراطيين التقدميين" وتصويرهم كخطر على القيم الأمريكية. إنها محاولة لاختطاف مصطلح "معاداة السامية" من سياقه التاريخي والإنساني وإسقاطه في قلب المعركة الحزبية الضيقة.


رسالة تحذيرية: "اللوبي لم يعد صحيحاً"

لم تكن عبارة ترامب "أقوى لوبي كان اللوبي اليهودي وهذا لم يعد صحيحا" مجرد ملاحظة، بل كانت رسالة تحذيرية مدروسة موجهة إلى القادة اليهود في أمريكا ومنظماتهم التقليدية. إنه يشير بأصابع الاتهام إلى الحزب الديمقراطي، مُعلناً أن النفوذ المؤيد لإسرائيل يتآكل داخله، وأن الملاذ الآمن الوحيد المتبقي هو "الارتماء بالكامل في أحضان الحزب الجمهوري". هذا الخطاب يخلق واقعاً جديداً قائماً على الولاء الشخصي لترامب، فإما أن تكون معه فتصبح "مدافعاً عن الشعب اليهودي"، أو ضده فتصبح "معادياً للسامية". إنه تقسيمٌ ثنائي خطير يحوّل السياسة الخارجية إلى اختبار إيديولوجي، ويجبر المنظمات اليهودية على الاختيار بين هويتها التعددية التقليدية والانصياع الكامل لأجندة واحدة.


العزلة والتجييش: ربط "معاداة السامية" بالكونغرس

يأتي هذا التصريح ليس في فراغٍ تكتيكي، بل كجزء من حملةٍ منظمةٍ تشنها الإدارة منذ بداية ولايتها الثانية تحت شعار مكافحة معاداة السامية. فقد كشفت تقارير أن حملة البيت الأبيض، التي يُشرف عليها مستشار الأمن القومي ستيفن ميلر، تستخدم سلاح التمويل الفدرالي كورقة ضغطٍ ممنهجة ضد الجامعات، حيث جُمِّدَ أكثر من ملياري دولار من التمويل لجامعة هارفارد وحدها، وأُرسلت تحذيرات إلى نحو 60 جامعة أخرى، وسط اتهامات بأن الهدف الحقيقي هو فرض رقابة أيديولوجية وتغيير ثقافي طويل الأمد داخل أسوار الأكاديمية الأميركية.


وكان الهدف المزدوج من اتهام الكونغرس جلياً: عزل الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، وتمهيد الطريق لقرارات تشريعية مقبلة. بضربة واحدة، يحاول ترامب تصوير أي انتقاد لسياسات إدارته أو لسياسات الحكومة الإسرائيلية على أنه عمل من أعمال "الكراهية الدينية"، مما يسحق مساحة النقاش الديمقراطي تحت عباءة الأخلاق. هذا التصعيد ليس مجرد خطاب؛ فهو يمهّد لفرض قيود جديدة على تمويل الجامعات والمنظمات التي تدعم حركات المقاطعة، وهو مشروع يتصدر أجندة ديسمبر 2025. إنه تحويل للمعارضة السياسية المشروعة إلى تهمة أخلاقية قذرة، مما يخلق مناخاً من الخوف ويُسكت الأصوات الناقدة قبل أن تبدأ.


ردود الفعل: انقسام يهدد النسيج الوطني

أثارت تصريحات ترامب عاصفة من الردود التي كشفت عن هوة لا تُسدّ داخل المشهد السياسي الأمريكي. من جانب الديمقراطيين، انطلق الغضب: وصف زعيم الأغلبية السابق تشاك شومر التصريح بأنه "إهانة لذكاء الناخبين" واستغلال رخيص لقضية إنسانية حساسة لتغطية الفوضى الداخلية. أما الجناح التقدمي "الفريق" فقد رأى في الهجوم محاولة واضحة "لإسكات أي صوت ينتقد سياسات الحكومة الإسرائيلية" عبر خلط النقد السياسي السليم بتهمة معاداة السامية. في المقابل، اصطف الجمهوريون خلف الرئيس بحماسة، معتبرين كلماته "شجاعة وتوصيفاً دقيقاً للواقع". رئيس مجلس النواب مايك جونسون أيد التصريح، مشيراً إلى خطابات "معادية للسامية" صدرت عن بعض الديمقراطيين، بينما رأى السناتور ليندسي غراهام أن ترامب "يحذر من واقع حقيقي وهو تآكل الدعم التقليدي لإسرائيل". حتى المنظمات اليهودية وجدت نفسها في حيرة: بينما التزمت "AIPAC" الحذر، هاجمت "جي ستريت" ترامب معتبرة أنه "يستخدم اليهود كأداة سياسية" لإثارة الانقسام.


المفارقة الكبرى: "انتقام" البيت الأبيض ينكشف في نفس اللحظة

تكمن الضربة القاضية لمصداقية هجوم ترامب في توقيته المثالي مع كشف رئيسة أركانه، سوزي وايلز، عن الطابع "الانتقامي" لإدارته. في مقابلة مع "فانيتي فير"، كشفت وايلز بصراحة غير مسبوقة أن ترامب يقود "حملة تصفية حسابات" ضد خصومه، معترفةً بأنها حاولت دون جدوى إقناعه بالتخلي عن "شهوة الانتقام" والتركيز على البناء. وصفها لفانس بـ "منظر المؤامرة"، وإشارتها إلى أن وزارة العدل بقيادة بام بوندي أصبحت "أداة للثأر"، كلها تفاصيل جعلت اتهام ترامب الأخلاقي للكونغرس يبدو كمحاولة يائسة لتغيير القصة "غير السرد". إنها مفارقة صارخة: بينما يوجه ترامب اتهامات بالمعاداة للسامية من الخارج، تكشف أقرب مستشاريه عن فوضى انتقامية تعصف بالداخل. هذا التناقض لم يفته الناشطون على منصة "X"، الذين سرعان ما ربطوا بين المقابلتين، مسائلين: كيف يمكن تصديق اتهامات ترامب الأخلاقية وهو محاط بمستشارين يصفون بعضهم البعض بنظرية المؤامرة؟


السخرية كسلاح: كيف فكك الرأي العام "الفزاعة"؟

شهدت منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة "X"، موجة عارمة من التفكيك الواعي لرواية ترامب. استخدم النشطاء "السخرية السوداء" والقياس المنطقي لكشف التناقض: كيف يكون الكونغرس "معادياً للسامية" وهو الذي يغدق مليارات الدولارات من أموال الضرائب الأمريكية على الدعم العسكري لإسرائيل؟ قاموا بنشر قوائم التصويتات المؤيدة، متسائلين عن منطق الاتهام. كما سلطوا الضوء على ازدواجية المعايير، مستذكرين تصريحات ترامب القديمة التي استخدمت صوراً نمطية عن اليهود، ومربطين بين هجومه اليوم ومحاولة استرضاء اللوبيات بعد استقالة إيلون ماسك. الأهم، برز خطاب وطني قوي تحت وسم "أمريكا اولاً وليس إسرائيل"، جادلاً بأن اتهام المعاداة للسامية صار أداة لإخضاع المصالح الأمريكية لأجندة حكومة أجنبية. لقد تحولت "الفزاعة" من أداة ترهيب إلى أداة سخرية، وفقدت قوتها الرمزية في زمن الوعي المفتوح.


سقوط آخر ألاعيب النظام القديم

وختامًا: ما حدث اليوم ليس مجرد خلاف سياسي عابر؛ إنه ناقوس يدق معلناً سقوط آخر ألاعيب "النظام القديم". لقد حاول ترامب، ببراعة تكتيكية، إعادة إحياء "فزاعة" معاداة السامية لترهيب الخصوم وتوحيد الصفوف خلفه، لكنه واجه شعباً أمريكياً مختلفاً. شعباً شاهد صور غزة، ووعى لغة الحقوق، ورفض الخلط بين كراهية الدين وبين نقد الاحتلال. الوعي الذي تشكل في جامعات أمريكا وشوارعها كسر طوق التضليل. إن اتهام الكونغرس بالمعاداة للسامية بينما يوقع على شيكات الدعم الملياري لإسرائيل هو ذروة التناقض الذي لم يعد يمرّ مرور الكرام. لقد ارتد السحر على الساحر: فبدلاً من إسكات الأصوات، فجر التصريح نقاشاً جريئاً عن هيمنة اللوبيات وازدواجية المعايير. ها هو عهد تسييس الأديان ينكشف، وها هي "الفزاعة" التي سكتت أجيالاً تتهاوى أمام قوة الحقيقة. إنها لحظة الحقيقة التي تثبت أن بطاقة "معاداة السامية" قد استُهلكت، وأن الشعب الأمريكي قد انتقل من مرحلة الخوف من الوصم إلى مرحلة المطالبة بالمحاسبة. 


وإن محاولة إسكات الأصوات عبر وصمها بالخيانة الأخلاقية ليست جديدة على المشهد السياسي. فقد شهدت الولايات المتحدة فصولاً مماثلة خلال الحقبة المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، حيث استُخدمت تهمة "عدم الولاء" أو "التعاطف مع الشيوعية" لملاحقة المثقفين وقمع الحريات. اليوم، يعاد تدوير نفس النموذج تحت عنوان "مكافحة معاداة السامية"، حيث تحوَّلت التهمة من درعٍ لحماية الأقلية إلى أداةٍ لتغيير المشهد الثقافي والأكاديمي جذرياً، وهو ما وصفه بعض المحللين بأنه "أكبر تهديد للجامعات الأميركية منذ حقبة المكارثية". لقد انتقلت الأمة من خوف المكارثية إلى يقظة الرأي العام الرقمي. والتاريخ يسجل اليوم: 17 ديسمبر 2025، اليوم الذي حاول فيه رئيس تخويف أمة بكذبة بالية، فقط ليكتشف أن الأمة قد سبقته إلى الحقيقة.

تعليقات