بقلم/نشأت البسيوني
في الإسكندرية المدينة التي اعتادت أن تجمع بين الهدوء والضجيج بين رائحة البحر وازدحام الحياة وقع الحدث الذي ترك صدمته في قلوب الناس قبل أن يصل الخبر إلى صفحات الجرائد فالرحيل المفاجئ لمستشار قضائي كبير داخل استراحة القضاة في سموحة لم يكن مجرد واقعة بل كان نقطة تحول في يوم كامل وفي وعي مدينة اعتادت أن تخفي أوجاعها خلف ضحكة بحر لا يهدأ ومع أن
الخبر جاء سريعا كرصاصة تخترق الصمت إلا أن تأثيره تمدد في الشوارع والبيوت وفي حديث الناس الذين وقفوا أمامه عاجزين عن تفسير كيف يمكن لرجل عاش عمره بين أحكام العدالة أن يصل إلى لحظة ينهي فيها حياته بنفسه الوجوه التي عرفته قالت إنه كان رجلا هادئا لا يتحدث كثيرا يعمل بضمير ويترك خلفه أثرا طيبا في كل مكان يمر به ورغم ذلك لم يعرف أحد ماذا كان يدور داخل
صدره وما الذي أثقل كاهله إلى الدرجة التي جعلته يقف أمام لحظة فاصلة لا رجعة فيها فالإنسان قد يحمل داخله جرحا لا يراه الآخرون مهما اقتربوا منه وقد يبدو ثابتا بينما كل ما حوله يتشقق بصمت لا يسمعه إلا هو وحده استراحة القضاة في سموحة كانت المكان الذي توقفت عنده القصة وهناك وجد المستشار جثة ساكنة وسلاحه الشخصي بجواره مشهد يختصر حكاية طويلة من تعب
ربما لم يستطع التعبير عنه وربما لم يجد من يشاركه ولو كلمة تعيد ترتيب فوضى داخله كانت تكبر يوما بعد آخر الاستراحة التي كانت ملجأ للراحة تحولت فجأة إلى غرفة صادمة تحمل عبئا إنسانيا ثقيلا يفتح الباب لأسئلة كثيرة كيف يعيش أصحاب المناصب العالية ضغوطهم كيف يتعاملون مع ثقل المسؤولية وهل يعرف الناس أن خلف المظهر الهادئ قد يعيش الإنسان معركة مرهقة لا
يراها أحد التحقيقات الآن تبحث وتفتش وتراجع خطواته الأخيرة وتستعيد تفاصيل يومه وتحاول أن تمسك بخيط صغير يقود إلى تفسير لكن الحقيقة الكبرى ليست في ملف ولا في تقرير الحقيقة الأكبر مختبئة داخل تلك اللحظة التي يشعر فيها إنسان أنه لم يعد قادرا على المواصلة وأن الطريق أمامه أصبح أضيق من أن يسعه وأن الألم الداخلي الذي كتمه طويلا أصبح أكبر من احتماله تلك
الحقيقة لا تكشفها المعاينة ولا يشرحها الطب الشرعي بل تكشفها إنسانية مفقودة وصوت لم يسمعه أحد الإسكندرية التي تعرف تقلبات البحر وتعرف أن الموج أحيانا يخفي تحته الكثير من الأسرار عاشت هذه المرة صدى مختلفا صدى يقول إن الضغوط القاسية قد تبتلع أقوى الناس وإن المواقع الرفيعة لا تعني قلبا خاليا من الجراح وإن الإنسان مهما بدا ثابتا قد يكون هشا من الداخل وواقعا في
صراع مرير لا يقدر على البوح به فمهنة القضاء تحمل مسؤوليات لا تتحملها أكتاف كثيرة ومشهد العدالة الذي نراه من الخارج كثيرا ما يخفي ثقلا نفسيا يعجز عن احتماله حتى أصحاب الرداء الأسود أنفسهم ومع رحيل المستشار تتجدد الأسئلة التي يجب أن تتوقف عندها كل مؤسسة وكل شخص وكل بيئة عمل هل نرى من حولنا كما يجب هل نقدم الدعم وقت الحاجة هل نفتح بابا للكلمة التي قد
تنقذ حياة هل نفهم أن القوة ليست في الصمت وأن الكتمان ليس شجاعة وأن الاعتراف بالتعب ليس ضعفا بل بداية إنقاذ المقال لا ينتهي عند لحظة الوداع لأن الحدث لم يكن نهاية قصة شخص واحد بل كان جرسا يدق بقوة ليفتح أعين الجميع على خطورة الضغط النفسي وعلى ضرورة النظر إلى الإنسان قبل المنصب إلى روحه قبل موقعه إلى وجعه قبل ما يطلب منه الناس وفي اللحظة
التي بدأت فيها الإسكندرية تستعيد هدوءها سيبقى السؤال معلقا في الهواء ماذا لو كان أحدهم مد يده قبل أن يصل المستشار إلى حافة الانهيار ماذا لو وجد كلمة تبعد عنه العتمة ماذا لو شعر أنه ليس وحده هذه الحكاية ليست مجرد خبر عابر بل مرآة كبيرة تكشف أننا نحتاج أن نعيد النظر في كل ما حولنا وأن نرى الناس بقلوبنا قبل أعيننا وأن نفهم أن أقسى لحظات الإنسان هي التي
يعيشها بصمت وأن الرصاصة الأخيرة لم تكن فعلا لحظة واحدة بل كانت نهاية صراع طويل عاشه وحده دون أن يشعر به أحد وفي النهاية يبقى الأثر شاهدا على حكاية كان يمكن أن تنتهي بشكل مختلف لو وجد من يلتقط صرخة الداخل قبل
أن تتحول إلى صمت أبدى

تعليقات
إرسال تعليق