بقلم/نشأت البسيوني
السياسة ليست كما يظنها كثيرون ساحة للصراع أو ميدانا للتجريح بل هي في جوهرها فن التوازن وميزان دقيق بين المصالح والمبادئ وبين الحلم والواقع وبين ما يجب وما يمكن هي ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين صوت الشعب وعقل الدولة بين نبض الأرض وكرامة الإنسان منذ أن وجد الإنسان على وجه هذه الأرض وجدت معه السياسة بشكلها الفطري حين كان يسعى لتنظيم حياته وتوزيع الأدوار واتخاذ القرار فحين اختار الإنسان أن يعيش في جماعة كان لا بد له من نظام وحين قرر أن يتحدث باسم الجميع كان لا بد له من قيادة وهنا بزغ فجر السياسة لا كترف فكري بل كحاجة إنسانية لا غنى عنها السياسة ليست شعارات ترفع ولا خطابات تلقى ولا وعودا تسكب فوق أسماع الناس إنها مسؤولية ثقيلة وحكمة نادرة ورؤية أبعد من حدود اللحظة هي علم وفن وأخلاق فمن مارسها بعقل راجح صار قائدا ومن خاضها بهوى شخصي صار عبئا على وطنه في جوهر السياسة الصادقة يكمن الإيمان بأن الوطن ليس ملكا لفئة دون أخرى وأن الكراسي زائلة لكن الأثر باق فكم من سياسي رحل وبقي اسمه منقوشا في ذاكرة الناس لأنه عمل بصمت وأخلص في خدمته وجعل المصلحة العامة فوق مصلحته
وكم من آخر نسيه التاريخ لأنه جعل من السياسة مطية لأهوائه لا وسيلة لنهضة وطنه السياسة الراشدة لا تبنى على الخصومة بل على الحوار ولا تقوم على الكراهية بل على الاحترام فالاختلاف سنة الحياة ولكن الخلاف في السياسة لا يجب أن يكون خلاف قلوب بل اختلاف عقول تبحث عن الصواب السياسي الواعي هو من يدرك أن كل رأي يحمل وجها من الحقيقة وأن الوطن يتسع للجميع وأن القوة لا تكون بالصوت العالي بل بالمنطق الهادئ والرؤية الواضحة وفي زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك المصالح أصبحت السياسة مرآة للثقافة والأخلاق فحين ترى مسؤولا ينصت قبل أن يتكلم ويفكر قبل أن يقرر ويختار قبل أن يجامل فاعلم أنك أمام سياسي يحمل ضمير وطن أما حين تتحول السياسة إلى صخب إلى منافسة على الأضواء لا على العمل فاعلم أن الموازين قد اختلت وأننا بحاجة إلى من يعيد للسياسة معناها النبيل
السياسة في جوهرها ليست مجرد إدارة دولة بل إدارة قيم وصياغة مستقبل وحماية ذاكرة أمة هي وعد أمام التاريخ بأن نبقى أوفياء لما بني بدماء الأجداد وأن نحفظ الكلمة الصادقة والرأي الحر والحق في الاختلاف فما أجمل أن نرى السياسيين وهم يتنافسون في حب الوطن لا في حب الظهور وما أبهى أن نرى الشعوب وهي تناقش بوعي وتختار بعقل وتراقب بأمل فالوطن لا يبنى بالهتاف بل بالعمل ولا يصان بالولاء للأشخاص بل بالإخلاص للمبدأ إن السياسة ليست بابآ موصودا أمام البسطاء بل هي طريق مفتوح لكل من يملك فكرة نقية أو رؤية صالحة أو حلما صادقا هي مساحة يلتقي فيها الحاكم بالمحكوم والمثقف بالعامل والشاب بالحلم ولعل أجمل ما في السياسة أنها تعلمنا أن نسمع أكثر مما نتكلم وأن نحترم أكثر مما نعارض وأن نغفر أكثر مما نحاكم
وفي الختام
تبقى السياسة مثل النهر إن جرى في مجراه الصحيح أنبت الزرع وأحيا الأرض وإن فاض بغير حساب أغرق كل شيء
فلنعد لها سدود العقل وجسور الحوار وحدود الأخلاق حتى تبقى وطننا مزدهرا ودولتنا شامخة وأحلامنا قابلة للتحقق
فلا نجعل السياسة سيفا يشق الصف بل قلما يكتب مستقبل الوطن بحبر الوعي والمحبة

تعليقات
إرسال تعليق