بقلم الدكتور أحمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض
تدخل بنا الجريمة الإلكترونية إلى عالم افتراضي بلا حدود، حيث تسابق التقنية المتطورة بسرعة الضوء بينما تتثاقل النصوص القانونية خلفها بخطوات وئيدة هذا المشهد يضعنا أمام مفارقة صارخة كيف يمكن لنصوص قانونية وُضعت في عصر الأوراق والأقلام أن تواجه جرائم تتم بلمسة زر في فضاء لا يعترف بالحدود أو الجغرافيا؟ إنها معضلة العصر الرقمي التي تواجه منظومة العدالة الجنائية في كل مكان فالقانون بطبيعته كائن محافظ يسير بخطى مدروسة، بينما الجريمة الإلكترونية كائن متحول يسبق الزمن نفسه هذا الفارق الجوهري يخلق فجوة متسعة بين واقع الجريمة الإلكترونية المتطورة باستمرار وقصور النصوص العقابية عن ملاحقتها.
لننظر إلى طبيعة الجريمة الإلكترونية التي تختلف جوهرياً عن الجريمة التقليدية فالجريمة الإلكترونية لا تعترف بالحدود الجغرافية، يرتكبها مجهول من مكان مجهول، ويصل أثرها إلى آلاف الكيلومترات في لمح البصر الضحية قد تكون في القاهرة، والجاني في طوكيو، والخادم في سان فرانسيسكو هذه الطبيعة العابرة للحدود تضع النصوص العقابية المحلية في مأزق حقيقي، فكيف لمحكمة وطنية أن تختص بنظر جريمة وقعت في عشر دول في وقت واحد؟ وكيف تطلب الأدلة من دول لا تربطك بها اتفاقيات تسليم مجرمين؟ إنه تحدٍ يعكس عجز النظم القانونية التقليدية عن مسايرة طبيعة الجريمة في العصر الرقمي.
الأكثر تعقيداً هو قصور التعريفات القانونية التقليدية للجرائم عن استيعاب الأشكال الجديدة للجريمة الإلكترونية فالنصوص التي صيغت لمواجهة السرقة التقليدية تعجز عن مواجهة سرقة البيانات الإلكترونية، والقواعد التي وضعت للاحتيال المألوف لا تنطبق على الاحتيال الإلكتروني المعقد بل إن بعض الجرائم الإلكترونية لا يوجد لها نظير في العالم المادي، مثل اختراق الأنظمة ووقف الخدمات الإلكترونية عن بعد هذا القصور التشريعي يخلق ملاذات آمنة للمجرمين الإلكترونيين، حيث يمارسون جرائمهم بعيداً عن طائلة القانون، مستفيدين من الفراغ التشريعي والفجوات القانونية.
إشكالية الأدلة الإلكترونية تمثل تحدياً آخر يواجه القضاء، فالدليل الإلكتروني سريع الزوال، يمحوه زر حذف، ويتحول بلمسة إلى رماد رقمي كما أن طبيعة الأدلة الإلكترونية التقنية تحتاج إلى خبراء متخصصين لفك شفرتها، بينما القضاة في معظمهم من جيل لم يتربى في أحضان التقنية هذا الفجوة التقنية بين القضاة والجريمة تخلق عقبة كؤود في طريق العدالة فكيف لمحكمة أن تفهم حيثيات جريمة اختراق نظام معقد دون أن تملك الأدوات الفنية لفهم طبيعة هذا الاختراق؟ وكيف يمكن تقديم دليل رقمي معقد إلى قاضٍ اعتاد على أدلة مادية ملموسة؟
اتساع نطاق الجريمة الإلكترونية يضاعف من حجم التحدي، فما كان في الماضي جريمة فردية محدودة الأثر، أصبح اليوم جريمة جماعية عابرة للقارات هاكر واحد يمكنه أن يشل حركة بلد بأكمله باختراق بنيته التحتية الرقمية، ومجرم إلكتروني واحد يمكنه أن يسرق بيانات ملايين الأشخاص في بضع ثوان هذا الاتساع الهائل في نطاق التأثير يجعل العقوبات التقليدية غير مجدية، فما قيمة غرامة مالية تفرض على من تسبب في خسائر بمليارات الدولارات؟ وما جدوى عقوبة سجن توقع على من استطاع من داخل زنزانته أن يشل شبكة كهرباء دولة؟
التحدي الأكبر يتمثل في السرعة الجنونية لتطور الجريمة الإلكترونية، فبينما تستغرق عملية تعديل القانون سنوات طويلة، تولد وتموت عشرات التقنيات المستخدمة في الجريمة الإلكترونية المجرم الإلكتروني لا يحتاج سوى ساعات لابتكار طريقة جديدة، بينما يحتاج المشرع إلى أشهر لمجرد فهمها هذه المفارقة في سرعة التطور تضع النظام القانوني في موقع المتلقي دائماً، يحاول ملاحقة ما فات دون أمل في اللحاق بالجريمة المتطورة.
في مواجهة هذا الواقع المعقد، تبرز الحاجة إلى نهج تشريعي جديد، أكثر مرونة وسرعة في الاستجابة نحتاج إلى قوانين إطارية واسعة تستوعب المستجدات، بدلاً من النصوص التفصيلية التي تتقادم قبل أن يجف حبر إصدارها نحتاج إلى إنشاء وحدات قضائية متخصصة في الجرائم الإلكترونية، تجمع بين الخبرة القانونية والمعرفة التقنية نحتاج إلى تطوير أدوات تحقيق رقمية تضاهي في تطورها أدوات المجرمين الإلكترونيين.
الجرائم الإلكترونية لم تعد ترفاً قانونياً يمكن تأجيل مواجهته، بل أصبحت تهديداً وجودياً للمجتمعات الحديثةإنها حرب خفية تشن على أمن الدول واقتصادها واستقرارها المواجهة تتطلب أكثر من مجرد تعديلات نصية، بل تحتاج إلى ثورة في الفكر القانوني، وإعادة هندسة للنظام القضائي، وتبني رؤية استباقية بدلاً من رد الفعل الفضاء الإلكتروني أصبح واقعاً نعيشه، والقانون الذي لا يستطيع حمايتنا في هذا الفضاء، هو قانون فقد صلاحيته
للحياة في العصر الرقمي

تعليقات
إرسال تعليق