بقلم الدكتور أحمد صفوت. السنباطي بمحكمة النقض
محاكمة الأحداث في مصر تُنظمها قوانين خاصة تهدف إلى حماية مصلحة الطفل وإصلاحه وإعادة تأهيله بدلاً من التركيز على العقاب وفقا لقانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008 والمعدل بالقانون رقم 186 لسنة 2023 بالمواد من 94ـ 99 والمادة 111 بالإضافة إلى قانون الإجراءات الجنائية ومع ذلك، فإن التحديات العملية مثل ظروف دور الرعاية والكثافة القضائية قد تؤثر على التطبيق الأمثل لهذه القوانين
يكمن جوهر محاكمة الأحداث في مصر، حيث تتحول قاعة المحكمة من مسرح للعدالة الصارمة إلى عيادة لإصلاح النفوس الشابة إنها رحلة معقدة يغلب عليها الطابع الاجتماعي والنفسي أكثر من الطابع العقابى، رحلة تطرح أسئلة مصيرية كيف يحكم قاضي الأحداث؟ وما هي صلاحياته؟ وكيف تتعامل الدولة مع طفل قتل بإيحاء من بالغين؟ هذه الأسئلة تقودنا إلى عالم خاص داخل النظام القضائي المصري، عالم تختلف فيه المقاييس وتتسع فيه صلاحيات القاضي ليصبح أكثر من مجرد رجل قانون.
صلاحيات قاضي الأحداث في مصر تتجاوز بكثير صلاحيات القاضي العادي، فهي تمزج بين السلطة القضائية والمسؤولية الاجتماعية عندما يجلس القاضي للنظر في قضية لا يقتصر عمله على سماع الشهود ومراجعة الأدلة، بل يمتلك سلطة أوسع تشمل طلب تقارير اجتماعية ونفسية مفصلة عن الظروف المحيطة بالحدث حيث يتحول القاضي هنا إلى باحث اجتماعي، يحقق في بيئة الأسرة، ويدرس وضعها التعليمي، ويستقصي دوافعه الخفية هذه الصلاحيات تمكن القاضي من فهم جذور المشكلة بدلاً من معالجة الأعراض فقط فالقاضي لا ينظر فقط إلى الفعل الإجرامي، بل ينظر إلى الشخص نفسه، إلى ذلك الطفل الذي قد يكون ضحية لظروف اجتماعية أو اقتصادية أو أسرية قاهرة هذه النظرة الشاملة هي ما تميز قاضي الأحداث عن غيره، حيث يصبح حكمه مزيجاً من العدالة القانونية والعدالة الاجتماعية.
وهنا يبرز سؤال مهم هل هناك فارق بين قاضي الأحداث وقاضي الجنح العادي؟ الإجابة تكمن في الفلسفة التي يحكم بها كل منهما فقاضي الجنح ينظر إلى الجريمة كخروج على القانون، وهدفه الأساسي هو توقيع العقاب الرادع وتطبيق القانون بينما قاضي الأحداث ينظر إلى الحدث كإنسان ضل الطريق، وهدفه الأسمى هو الإصلاح وإعادة التأهيل ولو كانت القضية أمام قاضي جنح عادي، لكان التركيز على فعل القتل نفسه والأدلة المقدمة لكن في قاعة محكمة الأحداث، ينصب الاهتمام على الإنسان، على ظروفه النفسية، على إمكانية إصلاحه كما أن إجراءات المحاكمة تختلف كليا وجذرياً، فجلسات محكمة الأحداث دائما ما تكون سرية، بعيدة عن الأضواء والإعلام، لحماية نفسية الطفل ومنحه فرصة حقيقية لتصحيح مساره دون وصمة عار تلاحقه طوال حياته.
تأتي جريمة القتل على رأس الجرائم التي تثير الجدل عندما يرتكبها حدث ماذا يفعل القاضي عندما يقف أمامه فتى أقدم على انتزاع حياة إنسان؟ القانون المصري واضح وحاسم في هذه النقطة لا يمكن إعدام حدث حتى لو كانت الجريمة توجب عقوبة الإعدام بالنسبة للبالغ، فإن الحد الأقصى للعقوبة التي يمكن أن يحكم بها على الحدث الذي لم يبلغ الثامنة عشرة هي الحبس في دار لتأهيل الأحداث مدة لا تزيد على خمسة عشر عاماً هذه الحماية المطلقة للحياة تستند إلى اقتناع راسخ بأن الطفل، مهما بلغت جريمته لا يزال قابلاً للإصلاح، وأن المجتمع يحمل جزءاً من المسؤولية عنه حتى مع ثبوت التهمة، فإن القاضي يعلم أنه لن يواجه عقوبة الإعدام، بل سيكون أمام خيارات إصلاحية تتراوح بين الإيداع في دار للتأهيل والإفراج عنه تحت إشراف اجتماعي.
هذا الوضع القانوني الفريد يخلق إشكالية خطيرة ؟ استغلال بعض الافراد والعصابات والإرهابيين للأطفال في تنفيذ جرائم القتل، مدركين أنهم يحملون "درعاً واقياً" يحميهم من عقوبة الإعدام يصبح الطفل هنا أداة في يد الكبار، ضحية مرتين مرة عندما يُجَرَّم، ومرة عندما يستغل استدراجة افراد او عصابة إجرامية ووعدته بالمال والحماية، ليقوم بعملية قتل بينما المحرضون الحقيقيون يبتعدون عن مسرح الجريمة هنا يتحول دور القاضي من قاضٍ إلى منقذ، ويتوجب عليه أن يكشف هذه الخيوط الخفية، ويعاقب المحرضين الحقيقيين بأقصى العقوبات، بينما يضع الطفل في بيئة إصلاحية تحميه من أولئك المجرمين القاضي هنا يواجه معضلة أخلاقية كيف يعاقب على الجريمة مع الحفاظ على الضحية المستغَلة؟
السؤال الأكثر حساسية هل تتم محاكمة طفل لم يبلغ الخامسة عشرة مثل شاب بلغ الثامنة عشرة؟ الإجابة قطعاً لا لان القانون هنا يميز بين مراحل عمرية مختلفة فالطفل الذي لم يكمل الخامسة عشرة لا يُسأل جنائياً بالمعنى التقليدي المحكمة هنا لا تبحث عن "عقوبة" بل عن "تدبير العقاب ليس هو الهدف، بل الحماية والإصلاح الفرق بين محاكمة من هم دون الخامسة عشرة ومن بلغوا الثامنة عشرة هو الفرق بين النهج الإصلاحي والنهج العقابي.
أما إذا قام الحدث بالقتل بناء على تحريض من بالغ، فإن الصورة تصبح أكثر تعقيداً يحاكم المحرض كفاعل أصلي للجريمة، وقد يواجه عقوبة الإعدام إذا توافرت شروطها بينما يخضع الحدث نفسه لعقوبة مخففة تتناسب مع سنه ودرجة تأثره بالتحريض، مع التركيز على إبعاده عن بيئة التأثير الإجرامي ومعالجة الأسباب التي جعلته أداة طيعة في يد الآخرين القاضي هنا يشبه الطبيب الذي يعالج المرض وليس الأعراض فقط، فهو يحاول اقتلاع جذور الاستغلال من جذورها.
داخل دور الرعاية، لا يُعتبر الحدث سجيناً بالمعنى التقليدي، بل هو تحت برنامج إصلاحي مكثف يتلقى التعليم، المهني، والرعاية الصحية النفسية والجسدية، ويسعى المشرفون إلى إعادة تأهيله للاندماج في المجتمع كمواطن صالح الفكرة هي تصحيح المسار، لا كسر الإرادة هذا الدور تشبه المدارس الداخلية أكثر من كونها سجوناً، رغم أنها لا تخلو من القيود الصارمة.
لكن يبقى سؤال مؤلم هل يتم نقل الحدث إلى السجن لاستكمال العقوبة؟ الإجابة نعم، ولكن فقط بعد بلوغه سن الحادية والعشرين، وفي حال كانت العقوبة المتبقية طويلة يتم نقله إلى سجن البالغين، وهو بيئة تختلف عن سجون العامة، وتستمر برامج التأهيل فيها، لكنها تظل بيئة أكثر صرامة من دور الرعاية هذه النقلة تمثل تحولاً من مرحلة الإصلاح إلى مرحلة العقاب، وهي لحظة مصيرية في حياة الحدث.
في النهاية، محاكمة الأحداث في مصر هي رحلة شاقة نحو تحقيق التوازن بين عدالتين عدالة تطلب العقاب لردع الجريمة، وعدالة تطلب الرحمة لإنقاذ طفل فالقاضي هنا يحمل على عاتقه أمانة ثقيلة توجب علية أن يوازن بين حق المجتمع في الأمان، وحق الطفل في فرصة ثانية للحياة إنها معادلة إنسانية صعبة في جوهرها، تذكرنا بأن العدالة الحقيقية ليست في شدة العقاب، بل في قدرته على الإصلاح عندما ينظر القاضي فهو لا يرى مجرد قاتل، بل يرى إنساناً ضل الطريق، وواجبه ليس فقط معاقبته، بل إنقاذه هذه هي فلسفة عدالة الأحداث في مصر، فلسفة تؤمن بأن كل طفل، مهما أساء، يستحق فرصة اخرى ليعود إلى المجتمع إ
نساناً صالحاً

تعليقات
إرسال تعليق