بقلم/نشأت البسيوني
هناك لحظة في حياة كل إنسان لحظة لا تشبه ما قبلها ولا ما بعدها لحظة يشعر فيها أن العالم قد تحول إلى غرفة واسعة بلا أبواب وأن صوته لا يجد جدارا يعود منه كصدى وأن كل الأشياء التي كان يظنها ثابتة بدأت تترنح كأعمدة حكيمة هزها زلزال من داخل الروح
في تلك اللحظة بالذات ينفتح ما أسميه نافذة الغياب
نافذة لا تطل على الخارج بل تطل على الداخل على تلك البقعة المنسية من القلب تلك التي كنسنا فوقها العمر ودفنا تحتها انتظارات كثيرة
أول الضوء حين يبكي القلب دون أن يسمع أحد
كنت دائما أظن أن بكاء الضوء شيء من الخيال شيء يكتبه الشعراء للتجمل أو للمبالغة إلى أن جربت بنفسي تلك اللحظة التي تتحول فيها الحياة إلى ورقة رمادية ويصبح فيها الصباح باردا إلى الحد الذي تفقد فيه الشمس دفئها
يومها أدركت أن الضوء يبكي فعلا
يبكي حين تتكسر الأحلام وحين تصبح الطرق طويلة بلا رفيق وحين تقف أمام مرآتك غير قادر على تحديد ما الذي انكسر فيك تحديدا
ليس كل ما ينكسر في الإنسان يسمع صوته فبعض الكسور تحدث في الداخل في مناطق لا يسمعها الطبيب ولا يشعر بها أحد لكنها تظل تحفر في الروح حفرة لا تردم
ثاني الضوء حين يصبح الكلام ثقيلا كالحجر
هناك كلمات تقال بسهولة وكلمات تحتاج إلى شجاعة لتخرج وكلمات تحتاج إلى عمر
أما الكلمات التي لا تقال فتتحول مع الوقت إلى حبال تشد القلب للأسفل
تعرف تلك اللحظة التي ترغب فيها أن تقول لأحدهم
ابق لا تذهب لا تتركني وحدي في منتصف الطريق
لكن شيئا ما يمنعك الكبرياء الخوف أم اليقين بأن الأمور مهما قيلت لن تتغير
وتجد نفسك صامتا رغم أن في داخلك حربا كاملة تدور بين الرغبة في البوح والرغبة في النجاة
وهكذا نهزم ليس لأن الآخرين أقوى بل لأن الكلمات بقيت داخلنا حتى صدئت
ثالث الضوء حين يختبرك الغياب لأول مرة
الغياب ليس مجرد رحيل جسد بل هو فراغ يتسع يوما بعد يوم حتى يصير مدينة كاملة من الصمت
الغياب أول صخرة يتعلم القلب أن يصطدم بها أول اختبار يثبت إن كان فينا شيء لا يزال قادرا على الحياة
تكتشف مع الغياب أن بعض الأشخاص ليسوا أشخاصا
بل أوطانا
وأن فراقهم يشبه الهجرة من نفسك نفسها
يتركك في منتصف الذكريات بلا خارطة يدفعك لتعيد ترتيب حياتك وكأنك تحاول لملمة رمال تنفلت من بين أصابعك
رابع الضوء أثقال الروح التي لا يراها أحد
نحن نحمل على أرواحنا أشياء لا ترى
نحمل خوفا من الفقد وخيبة من الأيام وجروحا لم يجبرها الوقت وذكريات حاولنا دفنها لكنها كانت كلما دفناها عادت لتنبض تحت التراب
نحمل أشخاصا رحلوا رغم أننا لم نمنحهم الإذن بالرحيل ونحمل أحلاما لم تنضج رغم أننا انتظرناها طويلا
نحمل أماكن أحببناها لأنها كانت تشبهنا ثم تركناها لأننا لم نعد نشبه أنفسنا
وكل ذلك يحدث بصمت
كأن العالم قد اتفق على ألا يسمع شكوانا وعلى أن يتركنا نرتب أرواحنا وحدنا
خامس الضوء حين تفهم أخيرا معنى الوحدة
الوحدة ليست غياب الناس الوحدة غياب الصوت الذي يطمئنك
الوحدة هي تلك اللحظة التي تقول فيها لنفسك
سأنجو وحدي هذه المرة
وتتساءل بعدها وهل بقيت مرات أخرى لأحاول فيها النجاة
الوحدة ليست موتا لكنها ليست حياة أيضا
إنها منطقة رمادية بين الاثنين منطقة تصبح فيها الأحلام ثقيلة والذكريات حارقة والأيام متشابهة لدرجة تفقد فيها الزمن معناه
سادس الضوء حين تتغير أنت دون أن تشعر
التغيير الحقيقي لا يحدث بضجيج
يحدث حين تستيقظ يوما وتكتشف أنك لم تعد تغضب من الأشياء التي كانت تشتعل داخلك وأن الوجع لم يعد يمزقك كما كان وأنك لم تعد تنتظر أحدا لينقذك
يحدث التغيير حين تدرك أنك أصبحت أقوى مما ظننت رغم أنك لم تتعلم القوة بل تعلمت الانكسار
والانكسار يا صديقي أعظم معلم في هذه الحياة
سابع الضوء حين تبدأ في جمع شظاياك بيدك
لا أحد يجمعك
ولا أحد يعيد ترتيب قلبك
ولا أحد يفهم كيف يوجعك ما يوجعك
أنت وحدك من يجلس آخر الليل يجمع شظاياه يلصق نفسه بيديه يكتب رسائل لا يرسلها ويبتسم ابتسامات يعلم جيدا أنها لا تشبهه
وهكذا تبدأ رحلة العودة
عودة بطيئة مؤلمة لكنها حقيقية
عودة تجعلك تعرف أنك أنت وطن نفسك وأن خلاصك يبدأ من داخلك قبل أي أحد
ثامن الضوء حين تدرك أن كل ما ضاع كان درسا
لا شيء يضيع
لا وجع ولا شخص ولا فراق ولا كلمة قاسية ولا دمعة سقطت في عتمة الليل
كلها دروس تترك فينا أثرا
أثرا يجعلنا نمسك بيد أنفسنا بحنان أكثر ويعلمنا كيف نختار وكيف نثق وكيف نرحل حين يكون الرحيل نجاة
تاسع الضوء ولادة جديدة من رحم الألم
بعد كل هذا بعد الغياب والانكسار والوحدة والصمت يولد شيء جديد داخلك
يولد إنسان لم يكن موجودا من قبل
إنسان يعرف قيمته يعرف خطاه يعرف حدوده ويعرف متى يفتح قلبه ومتى يغلقه
هذا الإنسان الجديد ليس قاسيا لكنه أقوى
ليس باردا لكنه أعمق
ليس عديم الإحساس لكنه لا يسمح لأحد أن يعبث بروحه كما في السابق
عاشر الضوء حين يعاود القلب النبض من جديد
تصل في النهاية إلى اللحظة التي تتنفس فيها دون ألم وتبتسم دون خوف وتمشي دون أن تلتفت
لحظة تشبه شروقا جديدا شروقا صنعته أنت لا الشمس
في هذه اللحظة تحديدا
تعرف أن الضوء لم يكن يبكي عبثا بل كان ينتظر اللحظة التي تتعلم فيها أنت كيف تنقذ نفسك
وهكذا
حين تنفتح نوافذ الغياب يبدأ الضوء في البكاء
وحين يجف دمع الضوء
تبدأ أنت في الحياة

تعليقات
إرسال تعليق