بقلم/نشأت البسيوني
كان الليل يزداد كثافة حتى صار كأنه جدار يتقدم نحوي ببطء لكنه لا يتراجع يزحف على أطراف الروح كما تزحف العتمة على نافذة في بيت قديم فقد أهله وكان في صدري فراغ واسع يشبه ساحة خالية بعد انتهاء الحرب بسنوات لا يسمع فيها أحد سوى أصوات الرياح وهي تحتك بأنقاض البيوت هناك في تلك البقعة التي كانت يوما تعج بالنبض أصبح كل شيء صامتا صامتا بطريقة لم تعد تحتمل
لم يكن القلب الذي مات يشبه القلوب التي تتعب ثم ترتاح ذلك القلب كان يجاهد يخوض معاركه وحده يركض في طرق لم تكن له ويحمل فوق كتفيه أحمالا لا تنتمي إليه ويقف في وجه الخيبات وحده حتى انحنى ظهره الداخلي وانطفأت فيه شرارة الحياة كان يقدم كل ما يستطيع ويتحمل ما لا يحتمل ويجاهد ليبقى نقيا في عالم يغمره الغبار لكن النقاء نفسه لم يكن كافيا لينقذه
كان القلب يموت شيئا فشيئا كما تموت شمعة في غرفة مغلقة كان الهواء فيها يضيق وكما يموت صوت حين يغرق في ضجيج لا يعرف الرحمة مات حين صار الصمت أكثر من الكلام والبرد أكثر من الدفء والرحيل أكثر من البقاء مات لأن أحدا لم ينتبه إليه وهو
يتلاشى ولم يمد يده حين كان يحتاجها ولم يسمع ارتجاجه الأخير
كل مساء كان يسقط جزء صغير منه يسقط كما تسقط ورقة من شجرة في نهاية الخريف وكل مساء يزداد الفراغ من حوله ويزداد الصمت ثقلا ويزداد الجرح عمقا حتى صار الألم عادة والعزلة مأوى والانطفاء رفيقا لا يغادر كان الموت يتسلل بخطوات خفيفة كأنه يعرف أن القلب الضعيف لا يستطيع مقاومته
وحين جاءت اللحظة الأخيرة لم يكن هناك صراخ ولا صوت انهيار فقط شعور يشبه انطفاء آخر قنديل في مدينة مهجورة شعور يجر خلفه تعب السنوات كلها ووحدة الأيام وصدمة الليالي الطويلة التي كانت تطرق الباب ولا تجد إجابة كان القلب ينسحب ببطء يترك مقعده في صدري ويقول دون صوت لم أعد أحتمل
وبعد أن مات كان لا بد من دفنه دفنت القلب كما يدفن شخص رحل بلا نعش دفنته داخل صدري وأعدت تراب الغياب فوقه بيدي لم تكن هناك جنازة ولا مشيعون ولا كلمات حزينة تقرأ على قبره فقط أنا والمسافة المظلمة بيني وبين نفسي والدموع التي تسقط من دون إذن واللحظة التي أدركت فيها أنني لست أدفن قلبا فقط بل أدفن نفسي القديمة وأدفن الثقة التي تكسرت والحلم الذي تحول إلى غبار والأمان الذي لم يعد موجودا
وبعد الدفن ساد الهدوء لكنه لم يكن هدوء راحة بل هدوء مقابر نسيت ضجيج الحياة ونسيت طريق الفرح وصار داخلي يشبه مدينة قديمة أغلق أهلها الأبواب ورحلوا وتركوا خلفهم بيوتا بلا نوافذ وشوارع بلا أصوات وليلا لا ينتهي
ومع ذلك رغم هذا الانطفاء الكبير ظل هناك شيء صغير جدا يتحرك شيء لا يمكن تسميته نبضا لكنه ليس موتا كاملا أيضا كأن جزءا صغيرا من الروح رفض أن يدفن مع القلب رفض أن يفقد نفسه رفض أن يستسلم شيء يشبه شرارة تحت الرماد أو نفسا يتيما يخرج من صدر منهك أو خيطا رقيقا من الضوء يتسلل عبر شق في جدار قديم
كان ذلك الباقي الضعيف هو الشيء الوحيد الذي يمنعني من الانهيار ومع مرور الوقت بدأت ألاحظ أن الرماد لم يعد صامتا كما كان وأن تحت الأنقاض حركة صغيرة قد تكبر يوما وأن القلب الذي مات وإن كان قد دفن فإن أثره لم يرحل لأن القلوب لا تموت تماما حتى حين نظن أنها انتهت تظل تترك خلفها بقايا من الحياة تكافح تقاوم تتشبث
ومع كل ليلة كنت أسمع داخل صدري صوتا خفيفا للغاية يهمس دون كلمات كأنه يقول إن الجروح مهما كانت عميقة فإنها لن تبتلع الحياة كلها وإن الظلام مهما طال لن يبقى إلى الأبد وإن القلب وإن مات فإن شيئا منه سيزورك في حلم في ذكرى في لحظة في تنهيدة ويذكرك أنك عشت يوما وأنك أحببت يوما وأنك كنت تستحق حياة مختلفة عما كان
هي جملة واحدة فقط تعيد تشكيل الداخل
إن النهاية ليست دائما نهاية أحيانا تكون مجرد صفحة أغلقت بينما الورقة
التالية تنتظر من يكتبها

تعليقات
إرسال تعليق