بقلم الكتابة / رقيه فريد
اعتدنا الكتابة عن عقوق الأبناء، وعن ذلك التقصير الذي يعتبر ذنبًا عظيمًا في حق الوالدين طالبين منهم المعاملة الحسنة والرفق بهم و الحنان والمودة ورد الجميل .
فلا شك أنه وأجاب وفرضًا على الأبناء.
ولكنّ هناك وجعًا آخر لا يتحدّث عنه الكثيرون
أبناء كثيرة يحملون في قلوبهم ندوبًا تركها آباؤهم لهم .
اعتدنا أن نحمّل الأبناء وزر العقوق كلما ذُكر،
لكنّ هناك جراحًا صنعتها أيدٍ مُحبّة… لكنها أخطأت التعبير.
الحديث هنا ليس انتقاصًا من قدر الآباء، بل دعوة لإعادة النظر في السلوكيات التي تُمارس بحب… ولكنها تُخلّف ألمًا.
فالقرآن الكريم جعل الرحمة أساس العلاقة الأسرية:
حين قال الله تعالى: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)
فإن كانت الآية تُلزم الأبناء بالرفق بآبائهم،
فالأولى أن يكون الآباء أهلًا لهذا القول الكريم أيضًا.
وهنا إشارة كونية حول تأثير الكلمة علي كل من الأباء والأبناء كما ذكر الله في كتابه العزيز أيات كثيرة عن تربية وتوجيه الأبناء وكانت كلها تبداء بكلمة (يا بني ) ومنها ما ذكر في سورة (لقمان )وإذ قال لقمان لبنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .. وتتوالى الأيات بكلمة ( يا بني) أنه أن تكن مثقال حبة من خردل فتكون في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله *لطيف* خبير. وهنا إشارة أيضًا من الله للأباء كى يدعو الأبناء باللطف لذكر أسم الله اللطيف ...و أستمر لقمان فى تعليم وتوصيه أبنه بقوله (يا بني )ثم قال أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر. وبداء يعلمه ويوصيه ولكن بلطف..وردت أيضًا أيات أخرى تتحدث عن الود في التعامل بين الأب وأبنه في مواضع مختلفة مرة وهو مطيعًا لأمر الله والأب ومرة أخرى وهو عاصي لله وللأب مثل :
* أنه ذكر في سوة (ص) يا بني إني أري في المنام إني أذبحك وكان رد الأبن يا أبتى أفعل ما تؤمر وهنا سيدنا إبراهيم قدم الود واللطف فى حواره قبل أن يخبره بأمر الله لهم .
*ليس هذا وحسب بل عندما كان الولد عاق لوالده ورافض فكرة الإيمان به وبالله حين قال سيدنا نوح ..( يا بني) أركب معنا..(سورة هود )وهنا تتجلى رحمه الله في خطابه وحديثه حين يتحدث عن الأب وأبنه سواء كان مطيعًا أو غير مطيع القول اللين اللطف الود هم أساس التربيه والتعليم .
ولهذا قال رسول الله صل الله عليه وسلم:
«ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلّا زانَهُ، ولا نُزع من شيءٍ إلّا شانَهُ»
(حديث صحيح . رواه مسلم)
فالرفق ليس خيارًا… بل واجب تربوي
للعقوق أوجه مختلفه منها:
1_ عقوق دون قصد .
هناك أنواع كثيرة للعقوق غير المرئي للأبناء تحت مسمي دون قصد .
*ربما بدافع التربية الصارمة.
*أوربما بسبب ضغوط الحياة.
*وربما لأنهم هم أنفسهم كانوا ضحايا تربية قاسية.
ليس الهدف لوم الآباء، بل فتح نافذة للفهم… لأن الحب أحيانًا يخطئ الطريق...
*عندما يظن الأب أنّ الشدة هي الطريق الوحيد لصناعة رجل.
*عندما تُربّي الأم ابنتَها بالخوف لا بالاحتواء.
*عند تجاهل المواهب والاختيارات الشخصية بدعوى “نحن نعرف مصلحتك”
*المقارنة بين الأبناء وإيذاء ثقتهم بأنفسهم.
*التقليل من مشاعرهم أو السخرية من أحلامهم
*الكلمات القاسية تترك جرحًا لا تراه العيون، لكنه ينزف في الأعماق
يؤكد عدد من خبراء علم النفس والتربية أنّ الدعم العاطفي ليس رفاهية، بل أساس في بناء شخصية متوازنة:
فيري . د. جان بياجيه /عالم النفس التربوي
أن الطفل يحتاج إلى من يفهم مشاعره لا مجرد من يوجّهه،
لأن التربية التي تعتمد على الأمر والنهي فقط تُنتج عقلًا منفذًا… لا عقلًا مبدعًا.
2_ العقوق الصادم
أبناء نشأوا وهم يسمعون:
“أنت لا تفهم شيئًا”
“كن مثل فلان”
“ لن تنجح أبدًا”…
فتلاشت ثقتهم بأنفسهم قبل أن تشتدّ عظامهم.
يقول كارل روجرز، رائد العلاج الإنساني:
“قبول الطفل كما هو… يمنحه القدرة على النمو لما يمكن أن يكونه فعلًا.”
أي أنّ الاحتواء هو مفتاح التحوّل.
الكلمة الجارحة تُحفظ في الذاكرة أكثر من الدرس القاسي…
وحين يُهمل الاحتواء، يصبح القلب يتيمًا رغم وجود والديه.
3_ عقوق قد يكون متعمّدًا:
*أب أو أم يضع الأبناء تحت ضغط المقارنة بالأقارب
*إهمال الدعم العاطفي، وكأن الماديات تكفي
*إذلال الأبناء عند الآخرين بحجة التربية
*تحميل الطفل ما لا يطيق من مسؤوليات الكبار
*استخدام الخوف وسيلة للسيطرة
** نموذج من الحياة **
كطفل متفوّق في الرسم، أو في شيء أخر, ولكن والده يصرّ على أن “الفن لا يطعم خبزًا… الطب فقط!”
يكبر وهو يعيش حياة لا تشبهه، يحمل شهادة… وقلبًا خائبًا.
* أو فتاة كلما أخطأت قالت لها أمها: “أنتِ عار عليّ”
كبرت تبحث عن ذرة حب في عيون أي شخص… حتى لو كان خطأً.
يقول د. مصطفى سويف /عالم النفس التربوي:
“التربية التي تُقصي العاطفة، تُخرّج فردًا مكسورًا لا مواطنًا قادرًا على العطاء.”
والمقارنة أيضًا كما أكّد جان بياجيه: ليست وسيلة تحفيز،
بل باب لإضعاف الإبداع والجرأة في اتخاذ القرار.
الكلمة القاسية لا تُنسى… بل تكبر مع صاحبها.
* حين يصبح الألم مقصودًا بلا وعي
هناك من يتوهّم أن الهيبة تُصنع بالخوف،
وأن القسوة هي الدرب الوحيد للنجاح:
إهانة تُغلّفها دعوى التهذيب
صراخ يُبرّر بـ “مصلحتك أولًا”
تهديد ووعيد بالعقاب بدل الحوار
يرى د. مصطفى حجازي أن:
“العنف اللفظي يترك ندوبًا نفسية أعمق من العنف الجسدي.”
ويضيف استشاري الطب النفسي د. محمد مهدي:
“التربية التي تخنق الرأي… تقتل روح المبادرة لعمرٍ كامل.”
أما اليونيسف فتؤكد:
“الاحتواء أساس صحّة الأبناء النفسية،
والحبّ غير المشروط هو الحصن الأول لهم.”
** الدائرة التي يجب أن تنكسر
أبٌ قُمِع… يقمع
أمّ حُرمت من الحنان… تبخل به
هكذا تتوارث الأجيال وجعًا بلا اسم.
تقول منظمة الصحة العالمية:
“الإذلال والانتقاد المستمر… من أبرز أسباب القلق والاكتئاب في مرحلة الشباب.”
ومن هنا نوجه دعوة للآباء… بحب
أيها الآباء…
أنتم السند وبكم نعيش قوتنا ومعنى الأمان،
لكن أبناؤكم يحتاجون أن يسمعوا منكم:
“أحبك كما أنت”
“أنا فخور بك”
“أخطاؤك ليست نهاية العالم”
اعتذاركم لا ينقص وقاركم… بل يجلّله
*استماعكم لا يضعف سلطتكم… بل يقوّي محبتكم.
* ترك مساحة للحلم… قد يصنع معجزة
ثقتكم بأبنائكم هي بذرة نجاحهم
كما قال الطبيب التربوي إريك فروم:
“الحب الحقيقي أن تمنح ابنك جذورًا ليشعر بالثبات،
وأجنحة ليحلق كما يريد هو… لا كما تريد أنت.”
**وفي الختام**
نحن لا نكتب هذا لنجرح من ربّانا،
بل لنُرمّم جُدران البيوت التي تصدّعت بصمت.
قد يخطئ الحبّ أحيانًا طريقه…
فلنعده نحن إلى قلبه الحقيقي.
فأجمل تربية،
أن نُخلّف وراءنا أبناءً لا يحتاجون علاجًا من طفولتهم…
بل يفتخرون بأنهم كانوا يومًا… أطفالنا.

تعليقات
إرسال تعليق