القائمة الرئيسية

الصفحات

حين تسترد الأوطان أنفاسها مصر تكتب فصلها الجديد بمداد من صبر وضياء


بقلم/نشأت البسيوني 


 حين ينهض الوطن من تحت الغبار قد تمر على الأوطان لحظات تخيل للناس أن الزمن توقف وأن ليلها أطول مما يجب وأن الطريق الذي تمشيه لا يؤدي إلى غير التعب لكن مصر كما يعرفها الذين عاشوا فيها وعرفتهم ليست وطنا يقف عند حافة الانطفاء ولا بلدا يطيل الوقوف أمام المرآة ليبكي ملامحه القديمة هي بلد يعرف كيف يمد يده إلى الغبار وكيف ينتفض وكيف يستعيد صوته حتى 


لو تأخر الصدى ولذلك حين ننظر اليوم حولنا نجد مصر كمن يسترد أنفاسه بعد شوط طويل من الجري أنفاس ساخنة مختلطة بعرق السنين الماضية لكنها أنفاس حقيقية تعلن أن الرحلة لم تنته وأن فجرا جديدا يتجمع على أطراف الأفق بين الأمس واليوم فجوة تصنع الفارق من عاش في مصر قبل عشر سنوات فقط وعاد ليمشي في شوارعها اليوم سيكتشف أن الزمن لم يمر عبثا هناك تفاصيل 


صغيرة تغيرت وأخرى كبرت وتكثفت وثالثة لم تعد موجودة

قبل أعوام كان المشهد العام محملا بالفوضى شوارع مزدحمة أكثر مما تحتمل خدمات متعبة مؤسسات تتنفس بصعوبة وطموح معلق لا يجد له أرضا يقف عليها لكن شيئا ما كان يتحرك في الخلف بعيدا عن الضجيج مشروعات تبنى طرق تشق المدن إعادة تنظيم إصلاحات ثقيلة على القلب لكنها ضرورية على العقل محاولات 


لإعادة ترتيب البيت الكبير من الداخل لم يكن التغيير سريعا ولم يكن سهلا لكنه كان حقيقيا المدن التي تنهض من الصمت

حين تبنى مدينة فهذا ليس مجرد فعل هندسي بل فعل حضاري يحمل بين جدرانه تصور الدولة عن نفسها وعن مستقبلها

والمشهد العمراني المصري خلال السنوات الماضية لم يكن بسيطا ولا تقليديا العاصمة الإدارية مدينة تكتب على صفحة جديدة


لم تبن العاصمة الإدارية لتكون بديلا للقاهرة بل لتخفف عنها لتحمل عنها عبئا تراكم على مدى قرن كامل مدينة واسعة واضحة الخطوط شبكة طرق تربطها بدقة مؤسسات حديثة مساحات خضراء شوارع منضبطة مبان تشعرك أنك تعبر إلى زمن آخر

العلمين الجديدة حين يلتقي البحر بفكرة وطن لم تكن مجرد مدينة ساحلية بل محاولة لإحياء جغرافيا كاملة كانت منسية مدينة 


تختلط فيها رائحة البحر بروائح المشاريع الحديثة الأبراج التي تعانق السماء الممشى الذي لا ينام الجامعات العالمية الأنشطة الثقافية والمساحات التي تستقبل حياة جديدة لا تشبه الماضي

مدن أخرى تولد بصمت المنصورة الجديدة شرق بورسعيد حدائق العاصمة الجلالة وغيرها مدن تشبه محاولة هادئة لإعادة توزيع الضوء على الخريطة وكأن الدولة تقول إنها لم تعد تترك أطرافها 


معتمة الإنسان الحلقة الأعمق في كل إصلاح البنية التحتية ليست غاية بل وسيلة أما الغاية الحقيقية فهي الإنسان المصري

ولذلك تحركت الدولة نحو ملفات كانت مهملة لسنوات التعليم الصحة التأمين التدريب محو الأمية تمكين المرأة دعم ذوي الهمم وتنظيم سوق العمل التعليم معركة لا ترى المنظومة التعليمية القديمة كانت تثقل أولياء الأمور وترهق الطلاب وتخرج أجيالا 


تحفظ أكثر مما تفهم لكن السنوات الأخيرة حملت محاولات جادة لإعادة البناء من الجذر تطوير مناهج رقمنة مدارس إنشاء جامعات جديدة توسيع البحث العلمي وربط التعليم بسوق العمل بدلا من الحفظ الأعمى الصحة حين يصبح العلاج حقا وليس رفاهية

المستشفيات الجديدة التأمين الصحي الشامل المبادرات التي طافت كل المحافظات لاكتشاف الأمراض المزمنة مكافحة فيروس سي 


الذي كان كابوسا شعبيا كلها لم تكن مجرد إنجازات صحية بل بداية لعمر أطول للمصريين الاقتصاد الطريق الأصعب دائما الاقتصاد هو الاختبار الحقيقي لأي بلد وهو الاختبار الذي لا يمكن الهروب منه

ومصر اختارت الطريق الذي لا يحبه الناس عادة طريق الإصلاح رفع الدعم تدريجيا زيادة الإنتاج توسيع المشروعات جذب الاستثمارات وتطوير البنية الأساسية لم تكن هذه القرارات مريحة 


لكنها كانت ضرورة والحقيقة أن نتائجها بدأت تظهر ببطء مشروعات تفتح أبواب العمل مصانع تعود للدوران طرق جديدة تدعم التجارة موانئ تتوسع ودولة تحاول تثبيت أقدامها وسط اقتصاد عالمي مضطرب الأمن حين تستقر الأرض تحت قدمك

الأمن ليس رفاهية بل شرط أساسي لأي نهضة ومصر التي واجهت موجات قاسية من عدم الاستقرار استطاعت خلال السنوات 


الماضية أن تعيد ظلال الأمن إلى الشوارع صار المواطن قادرا أن يعيش يومه دون أن يشعر بأن الغد مجهول إلى درجة الرعب المرأة حين تأخذ مكانها الطبيعي لم تعد المرأة المصرية تطالب بحقها كما كان قديما اليوم صارت جزءا من القرار وزيرة محافظ قاضية رائدة أعمال إعلامية قيادية في مؤسسات الدولة التغيير لم يكن شكليا بل عميقا يعلم المجتمع أن البلد لا ينهض بنصفه فقط الثقافة ذاكرة 


الوطن حين تتجدد الحضارة ليست مباني فقط الحضارة ذاكرة ورائحة وصوت وعلى الرغم من الانشغال بالبناء الحديث لم تهمل مصر ثقافتها افتتاح متاحف جديدة تطوير المتحف المصري الكبير إعادة إحياء شوارع التراث مهرجانات فنية حركة نشر ومشاريع لاستعادة الوعي العام عبور الأزمات درس لا ينسى الأزمات الاقتصادية والسياسية التي هزت العالم تركت آثارا واضحة على 


مصر لكن مصر بخبرة التاريخ لم تكسرها الأزمة بل جعلتها أشد وعيا تعلمت من الأخطاء أعادت ترتيب أولوياتها وفهمت أن الطريق الصحيح ليس دائما الأسهل مصر وتغير شكل العالم التحول الرقمي الذكاء الاصطناعي الاقتصاد الأخضر الطاقة الجديدة لم تعد هذه مصطلحات حديثة بل واقعا دخلت فيه مصر بخطوات ثابتة

مبادرات للتحول الرقمي خدمات حكومية مؤتمتة توسع في الطاقة 


الشمسية والرياح بنية معلوماتية جديدة ومشاريع تحقق مفهوم الدولة الحديثة ماذا بعد لم تصل مصر إلى النهاية هي فقط وصلت إلى بداية جديدة بداية مليئة بالتحديات نعم لكن أيضا مليئة بالفرص وبينما ينشغل البعض بعد ما خسرته الدولة في الطريق ينشغل آخرون بعد ما اكتسبته خبرة ثبات قدرة على المواجهة واستعداد لمرحلة أكثر وضوحا هكذا ينهض الوطن الوطن لا ينهض 


بقفزة واحدة بل بنفس طويل طويل جدا والذي يحدث في مصر الآن ليس معجزة ولا صدفة ولا حظا جيدا إنه تعب سنوات طويلة يتجمع في لحظة واحدة ليقول ها نحن نقف مرة أ

خرى ونكتب فصلا جديدا بمداد من صبر وضياء

تعليقات