بقلم: محمد سفيان براح
سفير الجزائر لدى جمهورية مصر العربية، ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية
في مسيرة الشعوب ثمة محطات لا تُقاس بمقياس الزمن، بل بعمق ما تُحدثه من تحوّلات في الوعي، وما تتركه من بصماتٍ خالدة في الوجدان الإنساني. ومن بين هذه اللحظات المضيئة، تبرز ثورة التحرير الجزائرية في الفاتح من نوفمبر 1954 كمنعطفٍ تاريخيٍّ مفصلي، أعاد صياغة معنى الحرية والكرامة، وفتح صفحةً جديدة في تاريخ الأمة الجزائرية والعربية على حدٍّ سواء.
في تلك الليلة المتوهّجة بنور الحرية، انطلقت صرخة المقاومة مدوية في كل ربوع الجزائر، من جبال الأوراس الشامخة في الشرق، تردّدت أصداؤها في تلمسان العريقة في الغرب، وانسابت عبر رمال الجنوب حتى عانقت أمواج سواحل الشمال، لتعلن ميلاد أعظم ثورة تحرّرية شهدها القرن العشرون. كانت ثورةً جمعت بين السلاح والفكرة، بين إيمانٍ بالوطن وشجاعةٍ في الفداء، وحملت مشروعًا وطنيًا متكاملًا نهض بالشعب الجزائري من ظلمات الاستبداد إلى أنوار السيادة والكرامة.
في تلك الليلة المتوهّجة بنور العزيمة، انطلقت صرخة المقاومة مدوّية في ربوع الجزائر، بدءًا من جبال الأوراس الشامخة شرقًا، فتردّدت أصداؤها في تلمسان العريقة غربًا، وانسابت عبر رمال الجنوب، حتى عانقت أمواج سواحل الشمال، لتعلن ميلاد أعظم ثورة تحرّرية شهدها القرن العشرون بأسره. كانت ثورةً جمعت بين السلاح والفكرة، بين إيمانٍ بالوطن وشجاعة الفداء، وحملت مشروعًا وطنيًا متكاملًا، نهض بالشعب الجزائري من ظلمات الاستبداد إلى أنوار السيادة والكرامة.
وعلى امتداد سنوات الكفاح المجيد، سطّر جيشُ التحرير الوطني الباسل، وقيادته السياسية، أروع صفحات البطولة والفداء، مجسّدين أسمى معاني التضحية والوفاء. فارتوت أرض الجزائر بدماء شهدائها الزكية، فأنبتت استقلالًا، وازدهرت حريةً، وأضاءت للأمة درب العزّة والانعتاق. ومن رحم المعاناة ووهج التضحيات، ترسّخ في الوجدان الجمعي أنّ الحرية ليست منحةً تُعطى، بل مسؤوليةٌ تُصانُ بالعمل والإخلاص.
وفي سجلّ الثورة المضيء، تظلّ العلاقة الجزائرية–المصرية صفحةً ناصعة تشهد على صفاء التضامن العربي وصدق الأخوّة النضالية في أبهى صورها. فقد وجدت الثورة الجزائرية في مصر حضنًا دافئًا وسندًا مخلصًا تستمدّ منه العزم والثبات، وتجد فيه شريكًا مؤمنًا بعدالة قضيتها. ولم تبخل مصر يومًا في نصرة الجزائر، إذ فتحت أبوابها للمناضلين، واحتضنت صوتهم في منابرها الإعلامية، وقدّمت الدعم السياسي والعسكري بلا تردّد ولامقابل، انطلاقًا من قناعةٍ راسخة بأن تحرّر الجزائر هو ركنٌ من أركان تحرّر الأمة العربية بأسرها. وهكذا، كانت مصر جسرًا للعون، ومنارةً للحق، ورفيقةَ دربٍ في مسيرة النضال، حتى بزغ فجر الاستقلال على أرض الجزائر حاملاً وعد الحرية ومجد الوفاء.
وبعد أن نالت الجزائر استقلالها، بقي الوفاء لمصر حيًّا في وجدانها، وفاءَ الأحرار لمن شاركوهم الألم والأمل، والنضال والحلم. فكانت الجزائر في الصفوف الأولى إلى جانب أشقائها المصريين خلال حربي 1967 و1973، مؤكّدةً أن الأخوّة النضالية التي جمعت الشعبين في ساحات التحرير لم تكن لحظةً عابرة في الزمن، بل أصبحت رصيدًا متجدّدًا من الثقة والتكامل، يجسد وعيًا عميقًا بوحدة المصير وإيمانًا راسخًا بأن التضامن العربي هو حجر الأساس لصون الكرامة وصناعة المستقبل.
ومع تعقّد المشهدين الإقليمي والدولي وتزايد التحديات، يواصل البلدان أداء دورهما المحوري كركيزتين ثابتتين في منظومة الأمن القومي العربي والإفريقي، وصوتين متناغمين في الدفاع عن القضايا العادلة، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية التي ستبقى بوصلة المواقف ومقياس الالتزام بالمبادئ، ورمزًا لوحدة المصير ونقاء الموقف، كما كانت دومًا في ضمير الجزائر ومصر معًا.
ومن روح نوفمبر المتجددة تستمد الجزائر اليوم عزمها في معركة البناء والتحديث. فقد رسّخت استقلالها بسيادةٍ اقتصاديةٍ كاملة على ثرواتها، وبقرارٍ وطنيٍّ مستقلٍّ صان حريتها في تحديد مساراتها التنموية، وبإرادةٍ وطنيةٍ جعلت من التنمية مشروعًا متواصلًا، ومن النهضة خيارًا دائمًا. 
وبناء على هذا النهج، حققت الجزائر خلال السنوات الأخيرة نموًا اقتصاديًا مطّردًا بلغ معدله قرابة 4% سنة 2024، مع مؤشراتٍ إيجابيةٍ تُنبئ باستمرار الاتجاه التصاعدي نفسه خلال عام 2025. ويعكس هذا الأداء رؤيةً اقتصاديةً متبصّرة تحت قيادة الرئيس عبد المجيد تبون، ترتكز على تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، بما في ذلك توسيع القاعدة الصناعية، ودعم الصناعات التحويلية، وتطوير مجالات الطاقات المتجددة، وتشجيع التصدير خارج قطاع المحروقات لترسيخ اقتصادٍ وطنيٍّ متوازنٍ ومستدام. 
وفي ميادين العلم والمجتمع، تشهد الجزائر نهوضًا لافتًا في مجالات التعليم والبحث والابتكار، إلى جانب تقدمٍ ملموس في قطاعي الصحة والبنى التحتية، بما يعزّز جودة الحياة ويكرّس مبادئ التنمية المستدامة.
أما على الصعيدين العربي والإفريقي، فقد حرصت الجزائر على مدّ جسور التواصل والتكامل عبر ربط شبكتها من الطرق والألياف البصرية والطاقة بجيرانها، ضمن مشاريع استراتيجية كـ"الطريق العابر للصحراء" الذي يربط الجزائر بنيجيريا، بما يعزز التبادل التجاري ويكرّس موقع الجزائر محورًا استراتيجيًا للتواصل بين العالم العربي وإفريقيا.
وتجسيدا لروح التعاون والتكامل في محيطها، تشهد العلاقات الجزائرية-المصرية حراكًا متجددًا يعكس إرادةً سياسيةً راسخة لدى قيادتي البلدين لتوطيد التعاون الاستراتيجي وتوسيع آفاق الشراكة في مختلف الميادين. وقد شكّلت زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى مصر في أكتوبر 2024 ولقائه الأخوية مع فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، محطةً بارزة في هذا المسار، إذ كرّست نهج التشاور والتنسيق، ورسّخت طموحًا مشتركًا لرفع حجم المبادلات التجارية إلى خمسة مليارات دولار سنويًا، بما يعكس رؤيةً متوازنةً لمستقبل العلاقات الثنائية. 
كما تستعد القاهرة لاحتضان الدورة التاسعة للجنة العليا المشتركة الجزائرية–المصرية خلال النصف الثاني من نوفمبر الجاري، في حدثٍ يجسّد عمق الروابط الأخوية ويعبّر عن تطلع الجانبين إلى مرحلة جديدة من التكامل والتفاهم، يُتوقع أن تتوّج بتوقيع حزمة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم وتنظيم منتدى لرجال الأعمال، في خطوةٍ تعزز الشراكة الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين.
وهكذا تظلّ روح نوفمبر منارةً لا يخبو ضياؤها، تشعّ في وجدان الأمة، وتلهم أبناءها معنى الالتزام الصادق والعمل المخلص، وتذكّرهم أن معركة البناء لا تقلّ قداسةً عن معركة التحرير، وأن الحفاظ على الوطن امتدادٌ لذلك القسم الأول الذي صدح به الأحرار.
وفي هذا الأفق الواثق بالمستقبل، تظلّ العلاقات الجزائرية-المصرية نموذجًا حيًّا في الثبات والتكامل، وتجسّد إيمان البلدين الراسخ بأن التعاون الصادق هو السبيل الأنجع لصون الأمن القومي العربي، وتعزيز التنمية المستدامة، وترسيخ دعائم الاستقرار في المنطقة. 
فالتاريخ المشترك الذي وحّد الشعبين في معارك التحرير بالأمس، يتجدّد اليوم في معارك البناء والنهوض، حيث تتلاقى الإرادات وتتوحّد الرؤى لصياغة مستقبلٍ مشترك أكثر توازنًا وعدلًا، يليق بتضحيات الأجداد وطموحات الأجيال القادمة.
تعليقات
إرسال تعليق