لم يعد من الغريب أن يطلّ علينا بين الحين والآخر خبر عن تتويج "أم مثالية" هي في الأصل فنانة استعراضية، أو "ملك جمال رجال" يتسم بملامح ناعمة وحضور مصطنع، بينما تُطوى صفحات المبدعين الحقيقيين دون أن تلتفت إليهم عدسات الإعلام أو منصات التكريم. هذه الظاهرة ليست مجرد مفارقة عابرة، بل هي مؤشر على تحولات عميقة في منظومة القيم والمعايير التي تحكم المجتمع
الأصل أن يكون التكريم وسيلة لإبراز القدوات الحقيقية: العلماء، الأدباء، المربين، من يضيفون للبشرية قيمة حقيقية. لكن ما يحدث اليوم هو انقلاب كامل للمعادلة: يتم دفع الرموز الاستعراضية إلى الصدارة، بينما يُقصى أصحاب الفكر والإبداع. هذا الانقلاب لا يغيّب فقط معنى "القدوة"، بل يعيد صياغة مفهوم النجاح في وعي الأجيال الجديدة باعتباره مجرد شهرة
المجتمع الاستهلاكي الحديث يعيش على "الترند"، أي الحدث الذي يثير الجدل ويجذب الانتباه حتى لو كان فارغًا من أي مضمون. وبالتالي يصبح من الأسهل أن يُصنع نجم من لا شيء، أو أن يُسلَّط الضوء على حدث سطحي، لأنه ببساطة يضمن التفاعل السريع والانتشار الواسع. هكذا تتحول قيم المجتمع من البحث عن الجوهر إلى الارتماء في أحضان الاستعراض.
الشاعر رشاد الدهشوري التقط هذا الانهيار القيمي بلغة صافية، مكثفة، حين قال:
"أصبتموتى بالخبل
بأنكم قارنتم بين قط وجمل
بين كوم من تراب وجبل
بلد يعذب الأدباء والشعراء
ويكرم العرايا بالأحضان والقبل
أصبتمونا بالخبل
أيها التافهون
أبدعتم في صنع الفشل"
هذه الأبيات ليست مجرد انفعال شعري، بل هي تأريخ لحالة اجتماعية مريضة: بلد يطارد أدباءه ويعاقب مبدعيه، بينما يغدق الأوسمة والاحتفاء على أصحاب الفراغ.
المشكلة هنا أن التكريم لم يعد بريئًا؛ لم يعد فعلاً رمزياً للاعتراف بفضل ما، بل صار أداة لتوجيه البوصلة الاجتماعية نحو مسارات بعينها. حين يُكرَّم التفاهة على أنها قيمة، فإننا لا نحتفي بالفراغ فقط، بل نهدم الأسس التربوية التي تقوم عليها الأجيال القادمة
تعليقات
إرسال تعليق