قراءة تحليلية
بقلمي الأديبة والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة نينارايسكيلا.
لقد انكشف الغطاء عن طغاة هذا العصر كما انكشف من قبل عن أسلافهم ، فإذا بأسرارهم تتهاوى ورقة بعد ورقة، وكأنّ كتاب التاريخ قد آن أوانه أن يُقرأ على الملأ. إنّها سُنّة الله في الظالمين أن يُفتضحوا بأيديهم قبل أن يُساقوا إلى حبل المشنقة.
ويا للأسف، فما كان يُنتظر من بعض البلاد العربية أن تكون حِصنًا للمستضعفين، صار في هذا الزمان قيدًا على رقابهم، وسوطًا يزيد جراحهم نزفًا. يُستجار بها فإذا بها تُسلِّم الفارّين من بطش التنّين إلى سجون الحلفاء، وتُقيم السدود في وجه المستنصرين باسم العدل. فأيُّ خيانةٍ أعظم من أن يُغلق باب الأخوّة، وأن يُحاصر الفارون في ديارٍ شُيِّدت أصلاً لنصرة المظلومين؟
إنّ ما يفعله حاكم الصين مع الإيغور ليس بدعًا من التاريخ، بل صورة جديدة من طغيان قديم. هو الوجه الحديث لفرعون إذ قال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهو الصدى المعاصر لجبروت نمرود حين خاصم إبراهيم في ربّه. فمن سُنن الجبابرة أنّهم يستكثرون وجود المؤمن الحرّ، فيسومونه سوء العذاب يقطعون النسل، ويغتالون الهوية، ويحوّلون الأوطان إلى سجون واسعة.
لكنّ السياسة مهما بلغت دهاءها لا تستطيع أن تُعطِّل ناموس الحق، فالتاريخ شاهد أنّ الطغيان وإن تزيّن بالحداثة يبقى هشًّا في جوهره، يترنّح عند أول هبّة من ريح العدالة. إنّ قوة الأمم لا تُقاس بكثرة سجونها، بل بما تملكه من مساواة وحين يفرغ الحاكم من القانون فإنّ سقوطه محتوم، وإن زخرف قصوره بالذهب والفضة.
ألا وإنّ للإيغور في صبرهم صورةً من صور الأنبياء والمصلحين، يذوقون الألم ولكنهم لا يبيعون هويتهم، يُستنزفون في المعتقلات ولكنهم يورّثون أبناءهم شعلة الإيمان. فهؤلاء قوم لا يملكون جيشًا ولا سلاحًا، لكنّهم يملكون ما هو أعلى من السيف صدق العقيدة، وقوة الروح، وثقةٌ بوعدٍ إلهي لا يتخلّف.
إنّ الطغيان ساعةٌ من الزمان، أمّا الحرية فباقية ما بقي الدهر. وقد علّمنا التاريخ أنّ من استعلى بغير حق سقط، وأنّ من خاصم ربّه خسر، وأنّ المستضعفين إذا اجتمعوا على كلمة، ولو كانت همسًا، تحوّل الهمس إلى صرخة تُسقِط العروش.
فليفقه الساسة، وليعتبر المتواطئون، أنّ الشرق الإسلامي ليس صحراء بلا جذور، بل هو أرض أنبتت حضارات، وأرضعت أممًا، وأخرجت رجالاً هزّوا أركان الأرض بكلمة التوحيد. والإيغور، مهما طال ليلهم، سيعودون يومًا ليرفعوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله في مساجد تركستان، كما رُفعت قرون من الظلم وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
الطغيان في جوهره واحد، وإن اختلفت وجوهه وأزمنته. فما فرعون ولا نمرود الذي جادل إبراهيم في ربّه، إلا صور لجبابرةٍ يتكررون في ثوب جديد، كأنّهم أشباح تتوارث العصا نفسها.
وحكّام اليوم، مهما زعموا الحداثة وتستّروا بلغة السياسة والتنمية، لا يخرجون عن تلك القاعدة. فدفاترهم تنكشف، وملفاتهم تُفضح، وصفحات كتابهم الأسود تُقرأ على رؤوس الأشهاد. إنّها سنّة التاريخ: أن المستبد يفضح نفسه قبل أن يُفضحه عدوه، وأن الطاغية يبني بيديه أسباب سقوطه.
وكان الأمل أن تكون الدول العربية، بما تحمله من ميراث الإسلام وعصب الأخوّة، حصنًا للمهجرين وملاذًا للمظلومين. لكن المشهد اليوم مرير أبواب تُفتح لا لنصرة الإيغور، بل لتسليمهم إلى مخالب الجلاد.
إنها خيانة مضاعفة خيانة لله الذي حرّم الظلم على نفسه، وخيانة للتاريخ الذي جعل هذه الديار ملجأً للمستضعفين عبر القرون، وخيانة للإنسانية ذاتها التي لا تقبل أن يُستبدل موضع النصرة بموضع القهر. فهل نسي هؤلاء الحكام أنّ الممالك زائلة، وأنّ مُلك الله باقٍ لا يزول؟
أما الصين، فإنها تُمارس على الإيغور سياسةً هي نسخة محدثة من الطغيان. فالتعذيب، والتفريق بين الأم وأطفاله، والتضييق على لبس المجال وإعفاء اللحية ، وهدم المساجد ومصادرة المصاحف، ليست سوى ترداد لصدى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ.
الأسلوب تغيّر، لكن الجوهر واحد استعباد الروح، ومسخ الهوية، وتشويه الفطرة. وما أشدّ المفارقة أن يُمارس هذا كله تحت لافتة "التنمية" و"الوحدة الوطنية"!
غير أنّ الطغيان وإن طال لا يملك أن يوقف عجلة التاريخ. فقد رأينا كيف سقطت الامم الظالمة فجأة، بعدما ملأت الدنيا رعبًا وصلفًا، وكيف انهارت أنظمة غربية و عربية كان يُظنّ أنها راسخة كالجِبال، فإذا بها تتهاوى أمام صيحة شعوبها.
وهذا الدرس بعينه يكرّره التاريخ منذ الأزل لا المتجبر بقي، ولا هرقل، ولا كسرى، ولا الطغاة الذين ملؤوا القرن العشرين جلبة وصوتًا. كلّهم تلاشى أثرهم، وبقيت العبرة.
إنّ الأمم تُبنى بالأخلاق و بالقيم لا بالسجون، وبالعدل لا بالاستبداد. ومن فرغ من القيم فقد أقام لنفسه قبرًا وهو لا يدري.
أمّا الإيغور، فإنّهم اليوم صُورة من صور المستضعفين الذين وعدهم الله بالنصر. يُستنزفون في المعتقلات، لكنّهم يورّثون أبناءهم عقيدة صافية، ويُحاصرون في مساجدهم، لكنّ قلوبهم تصدح بالأذان سرًّا.
إنهم لا يحملون السلاح، لكنهم يملكون ما هو أمضى من الرصاص الثبات، وصدق الإخلاص، وثقة لا تتزعزع في وعد الله. وهذه الثقة هي القوة الحقيقية التي لا تهزمها جيوش ولا تطفئها النار ولا حديد.
فليعلم الطغاة أنّ لكل ساعةٍ كتابًا، وأنّ ساعة القصاص تقترب، وإن ظنّوا أنهم محصّنون. وسيرى العالم يومًا مآذن تركستان الشرقية ترفع الأذان عاليًا كما رُفع يومًا في بيت المقدس بعد قرون من الاحتلال.
وسيُساق فرعون العصر إلى نهايته كما سِيق مَن قبله، وتبقى سنّة الله شاهدةً على أنّ الأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون.وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
الطغيان مرضٌ، لا يلبث أن ينخر جسد الدولة حتى يفسد بنيانها. فإذا استبدّ الحاكم، فقد اجتمع فيه الجور والفساد، وقلّت العصبية التي تحفظ الملك، فيُؤذن له بالزوال.
وها نحن نشهد اليوم طغاة جددًا، مهما تستّروا بأسماء الحداثة ورايات التنمية، فإنهم لا يخرجون عن أصل واحد:استعباد الشعوب، وإطفاء نور الحرية. ولعلّ أشدّ ما يؤلم أن يُسهم بعض العرب في ظلم إخوانهم، مع أنّهم أولى الناس بحمل لواء النصرة إنّ الملك بلا عدل جسد بلا روح. فكيف بدول تسلب الضعفاء حقّهم في الملجأ، وتستبدل الأمان بالخوف، والنجدة بالتسليم إلى المجرم؟
الصين، تسلك مسلك إسرائيل. تبدّل الأدوات، وتغيّرت الأسماء، لكنّ الجوهر واحد إذلال المؤمنين، تشويه الهوية، وحصار الروح،: الإنسان إنما يَسْمو بالعقل والحرية، فإذا سُلِبَهما فقد عاد إلى حضيض البهيمية. وهكذا تصنع الصين اليوم تُخضع شعبًا كاملًا لا لتبني دولة أقوى، بل لتفرغ الإنسان من إنسانيته وأنظمة معاصرة ملأت الدنيا صخبًا، لم تصمد أمام هبّات شعوبها، لأنّها بَنَت سلطانها على الخوف لا على الرضا.
أمّا الإيغور، فإنهم في صبرهم على الشدائد ثوار وحازمين صنعوا العصبيات، والعصبيات تصنع الدول. يُستنزفون في المعتقلات لكنّهم يورّثون أبناءهم روحًا لا تُهزم، ويُضيَّق عليهم في مساجدهم لكنّهم يبقون قلوبًا مؤمنة عامرة بالقرآن.
إنّهم بلا جيش ولا سلطان، لكنّهم يملكون العقيدة الصادقة، بأنّ الحق لا يُهزم وإن طال ليله.
إنّ الدول كالإنسان تولد وتشبّ وتشيخ وتموت، وأنّ أعمارها تقصر بالظلم وتطول بالعدل. وهذه حقيقة لا يُعطّلها جيش ولا يُؤخرها مال.
وسيعلم فرعون العصر، كما علم من سبقه، أنّ البحر الذي ابتلع فرعون الأمس، سيبتلع غطرسته هو أيضًا، وأنّ بعوضة صغيرة كانت كافية لإنهاء جبروت نمرود، فما باله لما يأتيه الخسف من سينقذه ؟!
تعليقات
إرسال تعليق