بقلم: حسام النوام
في مشهد يهز الضمير الإنساني قبل أن يهز عناوين الأخبار، استيقظت الإسكندرية على جريمة بشعة ارتكبها أب في لحظة فقدان عقل واتزان، حين طعن ابنتيه بيديه ثم أنهى حياته بسلاحه الأبيض، تاركًا خلفه دماءً، وصرخات مكلومة، وأسئلة لا تنتهي: كيف يتحول الحنان إلى طعنة؟ وكيف يصبح البيت الذي يفترض أن يكون مأمنًا، ساحة رعب وذعر؟
هذه الحادثة لم تعد مجرد واقعة فردية تُسجل في محاضر الشرطة، بل هي ناقوس خطر يدق بعنف، ليكشف لنا عن تآكل قيم الرحمة داخل بعض الأسر، وضياع لغة الحوار، وغياب الدعم النفسي والاجتماعي، مما يحوّل الخلافات الزوجية إلى مآسٍ دامية.
العنف الأسري… وباء يتخفى خلف الأبواب المغلقة
العنف الأسري ليس وليد اليوم، لكنه يطل برأسه كل فترة في جريمة أب يقتل أبناءه، أو زوج يذبح زوجته، أو أم تنهي حياة طفلها. كلها قصص متكررة، تختلف في التفاصيل، لكنها تتشابه في الجوهر: غياب العقل أمام الغضب، وانهيار منظومة الأسرة أمام ضغوط الحياة.
الأب في هذه القصة كان يحاول إجبار زوجته على العودة للمنزل بعد خلافات زوجية، لكن بدلاً من البحث عن حلول إنسانية وقانونية، استغل أضعف من في الأسرة – الطفلتين – كورقة ضغط، ليُثبت أن العنف لا يولد إلا الخراب، وأن الإصرار على السيطرة بالقوة لا يقود إلا إلى النهاية السوداء.
الأسباب أعمق من مجرد "خلافات"
لا يمكن أن نفسر هذه الجريمة فقط بخلافات بين زوج وزوجة، فالمشهد أكبر وأعمق:
ضغط اقتصادي خانق يحاصر الأسر المصرية، ويحوّل الآباء إلى قنابل موقوتة.
اضطرابات نفسية غير مُعالجة تجعل من بعض الأفراد أسرى لأفكار سوداوية مدمرة.
غياب ثقافة إدارة الخلافات التي تجعل أول رد فعل على الأزمات هو العنف لا الحوار.
انهيار الدور المجتمعي والرقابي الذي يترك الأسر تغرق في مشكلاتها دون تدخل حتى تقع الكارثة.
من الخاسر؟
الخاسر الحقيقي لم يكن الأب الذي أنهى حياته، ولا الأم التي تركت منزلها، بل الطفلتان اللتان وجدتا نفسيهما في مواجهة موت غادر بيد أقرب الناس إليهما.
إنها مأساة لا تمس بيتًا واحدًا فقط، بل تجرح ضمير المجتمع كله، وتطرح سؤالًا صادمًا: إذا لم يعد البيت آمنًا، فأين يجد الطفل أمانه؟
ما الذي يجب فعله؟
الحلول لا تحتمل التأجيل، فكل يوم يمر دون تحرك يعطينا قصة جديدة أكثر دموية.
1. قوانين رادعة: يجب أن يكون التعامل مع تهديد الآباء لأبنائهم كجرائم جنائية مكتملة الأركان، لا مجرد "خلاف أسري".
2. مراكز دعم نفسي واجتماعي: الدولة مطالبة بفتح مراكز مجانية لدعم الأزواج والزوجات والأطفال، لرصد الأزمات قبل أن تنفجر.
3. إعلام مسؤول: دور الإعلام ليس فقط نشر الخبر، بل تقديم حملات توعية مستمرة تعلّم الناس كيف يديرون خلافاتهم.
4. خطاب ديني وتربوي مؤثر: رجال الدين والمدارس عليهم واجب غرس قيم الرحمة والحوار بدلًا من خطاب "العنف رجولة" الذي يدمّر المجتمع.
5. تدخل الجيران والمجتمع المدني: الصمت أمام صرخات الاستغاثة مشاركة في الجريمة، والمجتمع كله يجب أن يتحمل مسؤوليته.
كلمة لا تحتمل المواربة
إن جريمة الإسكندرية ليست استثناءً، بل حلقة في سلسلة من العنف الأسري الذي يتصاعد يومًا بعد يوم. إذا لم نتحرك جميعًا – دولة، مجتمع، إعلام، ودين – لوقف هذا النزيف، فسوف نستيقظ كل أسبوع على مأساة جديدة، وربما أشد قسوة.
الأسرة هي العمود الفقري للمجتمع، وحين تنكسر الأسرة، ينهار معها المجتمع كله. لهذا فإن مواجهة العنف الأسري ليست رفاهية، بل معركة بقاء، تبدأ من البيت وتنتهي عند الوطن.
تعليقات
إرسال تعليق