الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
لا شك أن الأمم لا تنهض إلا بعلمائها ومفكريها وروادها في مختلف المجالات، وأن الجامعات لا تُبنى مكانتها إلا بما تضم من أساتذة أجلاء يحملون على عاتقهم رسالة العلم والتربية والتكوين، وفي هذا الإطار يبرز اسم معالي الأستاذ الدكتور الأنصاري النيداني باعتباره واحدًا من أعمدة الفكر القانوني في مصر والعالم العربي، وأحد أبرز الشخصيات التي أثرت الحياة الأكاديمية والبحثية لسنوات طويلة، فهو أستاذ ورئيس قسم قانون المرافعات بكلية الحقوق، وعضو اللجنة العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس، كما يُعَد بحق أحد خيرة العلماء الذين جمعوا بين العلم العميق والرؤية الثاقبة والخبرة المتراكمة، مما أهّله ليصبح نموذجًا يُحتذى به في البذل والعطاء والقيادة الأكاديمية.
لقد عرف الوسط الأكاديمي والقانوني الدكتور الأنصاري النيداني باعتباره أستاذًا متميزًا في مجال قانون المرافعات، وهو المجال الذي يُمثل حجر الزاوية في الدراسات القانونية لأنه يُعنى بالإجراءات المنظمة للتقاضي أمام المحاكم وضمانات تحقيق العدالة، وقد استطاع من خلال موقعه كرئيس لقسم المرافعات أن يرسخ لمفهوم متكامل في دراسة هذا الفرع الحيوي من القانون، حيث حرص على أن تكون مناهج القسم محدثة ومتطورة ومتصلة بما يشهده الواقع العملي من تغيرات تشريعية وقضائية، وكان دائمًا يؤكد لطلابه أن دراسة المرافعات ليست مجرد حفظ للنصوص بل هي تدريب على التفكير القانوني السليم واكتساب القدرة على تطبيق النصوص في ساحات القضاء بما يكفل حماية الحقوق وصون العدالة.
ومن خلال موقعه في رئاسة القسم، كان معالي الأستاذ الدكتور الأنصاري النيداني حريصًا على أن يكون القسم منارة علمية حقيقية، فلم يقتصر دوره على الإدارة التقليدية وإنما انخرط بجهد كبير في تطوير محتوى المقررات الدراسية وتشجيع البحث العلمي وإقامة الندوات العلمية واللقاءات الفكرية التي تُسهم في إثراء الحوار الأكاديمي، كما أولى اهتمامًا خاصًا بالطلاب، معتبرًا أنهم جوهر العملية التعليمية وأن نجاحهم وتميزهم هو أعظم ما يمكن أن يقدمه الأستاذ لرسالته العلمية.
أما على المستوى البحثي والعلمي، فإن إسهامات الدكتور النيداني تُعَد رصيدًا هائلًا في المكتبة القانونية، حيث أصدر العديد من الدراسات والبحوث المتخصصة التي تناولت قضايا عميقة في قانون المرافعات وفروعه، وقد امتازت كتاباته بالجمع بين الدقة الأكاديمية والوضوح العملي، الأمر الذي جعلها مرجعًا أساسيًا للباحثين والممارسين على حد سواء، كما كانت بحوثه دائمًا مرتبطة باحتياجات القضاء المصري ومشكلاته الواقعية، وهو ما منحها قيمة مضاعفة لأنها لم تكن بحوثًا نظرية فحسب بل أدوات عملية ساعدت القضاة والمحامين في معالجة الكثير من القضايا والإشكالات الإجرائية.
وتتجلى مكانة الدكتور النيداني كذلك في عضويته باللجنة العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس، وهي لجنة عليا لا يُختار لها إلا صفوة العلماء الذين أثبتوا جدارتهم علميًا وأكاديميًا، وفي هذا الإطار اضطلع بمسؤوليات جسيمة تتمثل في تقييم البحوث المقدمة للترقيات وضمان أن تكون المعايير العلمية هي الفيصل في منح الدرجات الأكاديمية، وقد عُرف عنه في هذا الدور النزاهة والصرامة العلمية والحرص الشديد على أن تبقى الجامعات المصرية محتفظة بمستواها الرفيع، مؤكدًا أن الحفاظ على جودة البحث العلمي مسؤولية كبرى لا تقل أهمية عن التدريس والإدارة.
ويتمتع معالي الأستاذ الدكتور الأنصاري النيداني بمكانة إنسانية خاصة بين طلابه وزملائه، فهو الأستاذ الذي يجمع بين قوة الشخصية وعمق العلم من ناحية، وبين التواضع الجم والقدرة على احتواء طلابه وتشجيعهم من ناحية أخرى، وقد حرص دائمًا على أن يفتح أمامهم أبواب الحوار والنقاش، إيمانًا منه بأن الطالب لا ينبغي أن يكون متلقيًا سلبيًا للعلم وإنما شريكًا فعّالًا في بناء المعرفة وصياغة الأفكار، وكان دائمًا يحفزهم على البحث والاطلاع والنقد البناء، ساعيًا إلى تخريج جيل من القانونيين القادرين على قيادة المستقبل بخطى واثقة.
ولا يمكن الحديث عن مسيرة الدكتور النيداني دون التوقف أمام إسهاماته في إثراء المجتمع القانوني خارج نطاق الجامعة، فهو دائم الحضور في المؤتمرات العلمية والندوات الفكرية، حيث يُشارك بمحاضراته وأبحاثه التي تتناول أحدث القضايا والإشكالات في مجال قانون المرافعات، وقد أسهم هذا الحضور في تعزيز دوره كأحد المفكرين القانونيين الذين يمثلون حلقة وصل بين الجامعة والمجتمع، وبين الفكر القانوني النظري والتطبيق العملي الواقعي.
إن مسيرة معالي الأستاذ الدكتور الأنصاري النيداني تُعَد تجسيدًا حيًا لقيمة الأستاذ الجامعي الذي لا يقتصر دوره على التدريس وإنما يمتد ليشمل البحث والإدارة والمشاركة في صياغة مستقبل العلم والمجتمع، فهو نموذج للعالم الذي أفنى عمره في خدمة القانون وطلابه وزملائه ووطنه، وترك بصمة عميقة ستظل راسخة في ذاكرة كلية الحقوق وجامعات مصر كافة، ولا شك أن سيرته ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة من الباحثين والدارسين، لتبقى رسالته شاهدة على أن العلم الحق هو أمانة ومسؤولية ورسالة خالدة لا تنطفئ.
تعليقات
إرسال تعليق