القائمة الرئيسية

الصفحات

Visa / عرض مسرحية التأشيرة للفنان كريم الغربي

 **هنا نابل / بقلم المعز غني **  





يمتاز المسرح بقدرته الخلاّقة على التسلل إلى دواخلنا، إخراج الضحكة الصافية من الأعماق حين يوشّح وجوهنا غبار اليومي ورتابة الأخبار. 

هكذا كان مسرح الهواء الطلق بنابل، ليلة الجمعة 15 أوت 2025، فضاء للفرح الأصيل ضمن فعاليات الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان نابل الدولي ، على الركح توهّجت السخرية مع العرض الكوميدي "التأشيرة " للفكاهي الموهوب كريم الغربي، الذي بات حديث الشارع ونجم صيف المهرجانات بلا منازع.


في البدء، كان اللقاء ضرباً من الحلم تحقّق في حضرة جمهور غفير توافد رغم الرطوبة وحرّ شهر أوت، توقاً إلى لحظةٍ من الانعتاق عبر فنّ يزاوج بين الضحك والمرارة.

 كان لي شرف حضور هذه الوليمة المسرحية البديعة، صاغها كريم الغربي بخفة روحه وجسّدها بأسلوبه الساخر الذي يلتقط تفاصيل الحياة اليومية ليعيد صياغتها في قالب نقدي لا يخلو من العذوبة.


مسرحية “التأشيرة” ليست مجرّد عرض فكاهي عابر، بل هي نصّ يلتقط أنفاس الشارع التونسي ويعكس أحلام جيله المتعطّش للسفر والانعتاق والبحث عن الأفق الأرحب ولو بأبسط الوسائل. بين ضحكة ودمعة، تتسلل الأسئلة: متى تصبح التأشيرة رمزاً للنفي الذاتي أكثر من كونها مجرد ورقة عبور الحدود بين البلدان؟ وكيف تقف المعاناة بين التونسي وحلمه بالحياة الأفضل؟ تلك التساؤلات التي تتبدّى في عبارات كريم الغربي وتعبيرات جسده، وتضج في أعين الحاضرين ضحكاً وإمتعاضاً وحنيناً دفيناً.


ولعلّ واحدة من أروع لحظات هذا المساء الجميل، حضور الفنان الكبير محمد الجبالي الذي حلق بين مقاعد الجمهور، محفوفاً بحفاوة أبناء المدينة وإبتسامات أبنائه الذين أخذهم العرض في موجة من الضحك والدهشة.

 بطل الأغاني الخالدة، مثل أغنية " خليك بجنبي " التي أداها باقتدار رفقة الفنانة القديرة نجاة عطية ،هذا الفنان الإنسان الذي لم يبخل على جمهور نابل بدوره، بل شاركهم لحظات الإنتظار وقوفاً وصفّر بحماس عند إنطلاق المسرحية، فاختلط على مسرح الواحة بين الكبار والصغار، الفن والفكاهة، الأصالة والتجديد.


عند كل مشهد من المسرحية يعلو التصفيق وتصدح القهقهات، كأن الجمهور أفتقد طويلاً هذا الصنف من الفن المباشر، فنّ الضحكة الهادفة التي تحفر في الأعماق دون إستئذان. سخرية تبدو عفوية لكنها عميقةُ الغور، مادتها وجع الهجرة ومفارقات الواقع، تخوم الحلم وكآبة الإنتظار، مباهج الطفولة وأحلام الشباب المكسورة على عتبات السفارات.


أمسية “التأشيرة” في نابل كانت أكثر من عرض مسرحي ناجح؛ كانت حكاية مدينة تهفو للفرح وتتشبث بالحياة رغم المصاعب. جمعت الأجيال وحررت الأفواه من القيود والهموم لساعتين أو أكثر، وأعادت إلى الأزقة ضجيج الأطفال وضحكات الجماهير المنصتة بإجلال للفن الراقي الآتي من القلب.


كريم الغربي بهذا العمل، لم يضحك فقط بل أيقظ في النفوس شهوة الحياة وأشعل في العيون بارقة الأمل بأن المسرح لا يزال في تونس قادراً على إستقطاب الجماهير وملامسة الجراح بشجاعة وصدق.

 وبين أصوات التصفيق الحار وعناق الفنانين، كانت نابل أمس مدينة للحب والبسمة والكرامة، تكتب سطراً جديداً في سفر المسرح التونسي.


وها نحن، في حضرة البهجة، نعيد إكتشاف ذواتنا، نخرج من قوقعة الاعتياد، ونحلم بتأشيرة لا عبور بعدها إلا نحو مسرح يضم الجميع… إلى عرض آخر يصنع البهجة من رحم التعب.

تعليقات