هنا نابل
بقلم: المعز غني
حين تطأ قدماك مدينة *الحمامات*، تلك اللؤلؤة الساحلية التي رسمت لنفسها عبر الزمن عنوان الجمال والمتعة والتناغم بين الأزرقين: البحر والسماء، فإنك لا تملك إلا أن تقع أسير سحرها الأخّاذ، وتستمع بعبق تاريخها وروحها الفواحة بالحياة.
لكن سرعان ما يتسلّل إلى قلبك شعور بالانقباض أمام مشاهد يومية متكرّرة، تُلقي بظلالها القاتمة على صورة المدينة التي يُفترض أن تكون عنوان الراحة والسكينة.
فما لبثت أن بلغت قلب الحمامات، مستجيبًا لدعوة مهرجانها الدولي الشهير، حتى أخذت ظاهرة التسول تطبع على المكان طابعها الخاص وتدق ناقوس الخطر حول إستفحال معضلة إجتماعية لا يجوز السكوت عنها.
** صور متكررة ... وجرح عميق **
منذ اللحظة الأولى لدخولك شوارع المدينة، تلتقيك وجوه شاحبة لأطفال صغار مفترض أن يكونوا في المدارس أو مستمتعين بطفولتهم، فتراهم ينتقلون بين المقاهي وواجهات المطاعم، يمدّون أياديهم المرتعشة في مشهد يجمع بين العجز والرجاء. بعضهم يردّد عبارات حفظوها عن ظهر قلب، وآخرون يكتفون بنظرة دامعة تفضح وجع الطفولة المنتهكة.
النساء أيضًا وجدن في التسول ملاذًا أخيرًا للنجاة من الفقر والعوز، فتراهن يحملن أطفالهن أو يدفعن بكراسي متحركة يستجدين بها تعاطف المارة والسياح، حتى أصبحت بعض الشوارع وكأنها مسرح مفتوح لبؤس إجتماعي ساخط لا يجد من يضع له حدًا.
** أبعاد الظاهرة وأسئلتها الملحّة **
من حق الجميع أن يسأل: كيف لمدينة بمكانة الحمامات أن تترك وجهها يتلوث بهذا الشكل؟
هل تتحمّل السلطات المحلية جزءًا من المسؤولية، أم أن الأمر أعقد من مجرد تقصير إداري؟
أين الجمعيات والمندوبيات الإجتماعية من هذه الظاهرة التي تجاوزت حدود الفردية لتصبح جرحًا مفتوحًا في جسد المدينة؟
سياح الحمامات، القادمون من شتى أقطار الأرض، لن يحفظوا سوى إنطباع واحد: مدينة جميلة ولكنها تحاصرهم بجيش من المتسوّلين، بين صغير وكبير، يسرقون منهم لحظات الفرح ويزرعون مكانها شعورًا بالحرج والشفقة وربما النفور.
** تسول منظم أم أزمة اجتماعية؟ **
ما يثير القلق أكثر أن الظاهرة لم تعد نتاج فقر فردي أو ضعف ظرفي، بل تحولت في بعض الوجوه إلى عمل منظم تديره شبكات تستغل هشاشة القوانين وأزمة المجتمع.
فهناك من يدفع بالأطفال والنساء للشارع، ويتكسب من دموعهم البريئة، يكرّس للفقر ثقافةً ويمتهن الكرامة الإنسانية مقابل بضعة دنانير.
هي رواية مجتمع يعيش مفارقة صارخة بين بهاء معالمه وعمق أوجاعه، فلا يجدي اللوم وحده، بل يلزم إقرار واضح بأن ما يهدد المدينة ليس مجرد تسوّل متفرق، بل بوابة لكوارث إجتماعية مقبلة إن لم تُعالج بجديّة.
** القانون ... والواقع **
صحيح أن القانون التونسي يُجرّم التسول ويعاقب عليه، لكن أي قانون بلا إرادة حقيقية وبدائل إجتماعية قوية، يبقى حبراً على ورق.
لا يكفي طرد المتسوّلين من الشارع، بل يجب تنمية بديلة، ومراكز حماية وإدماج للأطفال، ومعاقبة من يستغلّ حاجات الضعفاء لأغراض ربحية.
** ما العمل ...؟ **
المطلوب يقظة مجتمع بكل أطيافه؛ جمعيات، بلدية، سلطات أمنية، وحتّى سكان المدينة أنفسهم.
الإحاطة بمن هم في خطر، التشجيع على التعليم والعمل الشريف، إقامة حملات تحسيسية، والتصدي بصرامة لكل أشكال الاستغلال. على الحمامات أن تحمي جمالها وأن ترسّخ صورة جديدة: مدينة نظيفة بذهن وصورة أهلها، قريةً للراحة وللأمان الإجتماعي ../.
تعليقات
إرسال تعليق