في عالم مزدحم بالأصوات، يعلو بعضها في غير موضعه، ويتوارى الآخر عن عمد، تتجلى قيمة عزة النفس كصوت داخلي يسمو بالروح، بينما يُطلّ علينا التكبر كظلّ مشوّه لثقة زائفة. لا تشابه بينهما، ولا مجال للمقارنة، فالأولى ترتقي بالذات، والثانية تُسقِطها من عليائها.
التكبر سلوكٌ متضخم، يُغذّيه ضعف داخلي، فيتظاهر بالقوة ليستر هشاشته، أما عزة النفس فهي امتناع عن الرد لا عجزًا، وصمتٌ عن العتاب لا خوفًا، وثباتٌ في لحظة الانكسار لا تبلدًا. حين نشتاق ولا نتكلم، حين نخيب فنصمت، حين نحب ونتظاهر بالبرود، فنحن لا نهرب، بل نحفظ مكانتنا من أن تُدنّس بمشاعر لا تلقى احترامًا ولا تقديرًا.
كم من المحبة ضاعت لأن القلب الذي يُحسن الاحتواء لم يكن موجودًا، ولأن الكرامة لا تباع بأرخص العواطف. إن عزّة النفس تُعلّم الإنسان كيف يبتلع الكلمات المؤلمة، لا لأن الحنجرة عاجزة، بل لأن الصمت أحيانًا أبلغ من الجُرح، وأرقى من الرد.
حين تصمت الكرامة ويتكلم القلب
تخيّل لحظة يخفت فيها رجاؤك، ويخيب ظنّك بمن وثقتَ به، فلا تعاتب ولا تشكو. تلك لحظة لا تُعاش إلا بعزّة النفس، لأنك تعرف تمامًا أن الرد ليس في صالحك، وأن الشكوى لمن خذل لا تُداوي. فتغمض عينيك عن تساؤلات حمقاء، وتكتم دمعًا حارقًا لأنك تُدرك أن هناك من ينتظر سقوطك، لا ليستقبلك، بل ليشمت فيك.
ومع ذلك، عزة النفس لا تعني القسوة، ولا البرود، بل هي رقّة في أعلى تجلياتها، لكنها رقّة لا تُهان. إنها ضبطٌ للمشاعر، واعتزازٌ بالذات، تمنعك من أن تُظهر حاجتك في مكان لا يُصان فيه الشعور، أو أن تتنازل عن كبريائك الحقيقي في سبيل لحظة ضعف.
يقولون إن الكبرياء يرفع الإنسان، لكنه في الحقيقة يرفعه على وهم. أما عزة النفس، فإنها تُعلّيه على الحقيقة، تُعطيه الضوء ليَظهر كما هو: قويًّا بصمته، كريمًا بتجاهله، شهمًا بثباته.
أثر العزة في زمن التراخي
في زمن تداخلت فيه المفاهيم، واختلط فيه الصدق بالتزييف، أصبح التمييز بين التكبر وعزة النفس مهمة أخلاقية قبل أن تكون شعورية. يحتاج الإنسان إلى بوصلة داخلية تُرشده إلى أن لا كل صمتٍ هو ضعف، ولا كل تجاهلٍ هو غرور.
كم نحتاج اليوم إلى أن نعلّم أنفسنا وأجيالنا أن الصمت ليس دائمًا علامة انكسار، بل قد يكون علامة قوة داخلية ونقاء لا يُساوم عليه. كم نحتاج إلى أن نقول لمن يُحبون بصدق: إن صمتنا ليس لأننا لا نريدهم، بل لأننا لا نريد أن نُهان في حبنا. عزة النفس لا تفرّط، لكنها لا تركع.
نحن كل هؤلاء الذين أرادوا، وتمنوا، وانتظروا، لكن عزّة النفس قالت كلمتها الأخيرة. لم تأذن بالبكاء أمام من لا يستحق، ولم تُفتح أبواب القلب لمن لم يفهم لغته. نعم، نريد أشياء، ونشتاق لأناس، ونحزن لفقدانهم، لكننا نحتفظ بالصمت، ونبتسم في وجه الخيبة، ونسير بثبات نحو نورٍ آخر.
في النهاية، ليست الحياة دائمًا أن نُجاهر بما نريد، بل أن نرتقي فيما نُخفي، أن تكون كرامتنا أثمن من رغباتنا، وأن نعلو بأنفسنا عن الانجراف خلف من لا يسمعنا إلا إذا صرخنا، ونحن نعلم أن من يحب بصدق يسمع حتى الصمت.
بقلم الأستاذة خديجة آلاء شريف
الجزائر
تعليقات
إرسال تعليق