القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة تحليلية للأوضاع الراهنة، كيف تصنع الكرة المجد العربي ،… بينما تحرير بيت المقدس “مباراة مؤجلة”



بقلمي الأديبة والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة


في مشهد لا يخلو من السخرية، أثبتت الوقائع الميدانية المرّة مفارقة واضحة، كيف يمكن لكرة قدم تحريك طاقات وحشود هائلة واستنفِار الحكومات بشكل هيستيري، أسرع وأقوى مما يحدث في القضايا المصيرية الكبرى؛ مثل القضية الفلسطينية!


يكفي أن تُعلن عن مبارة كرة قدم ، حتى تتحوّل الأجهزة الأمنية العربية والمخابرات إلى زوبعة لا تهدأ. اجتماعات طارئة، تخطيط محكم، تجهيز ملاعب تضاهي المعايير العالمية، تسهيلات مالية، أعداد الجماهير، وسلاسة الحجز بين الفنادق والملاعب. 

احتفالات افتتاح أسطورية، وختام يليق بعيون حاملي الكاميرات.

وفي غضون أيام، تُحل مشكلات المواصلات، وتُزيَّن الشوارع، وتُفتح أبواب الاستثمار… وكأن عجلة التنمية كانت تنتظر صافرة البداية.


لكن، ما إن تنطفئ الأضواء، حتى تعود الملفات الكبرى إلى أدراجها، وتقصى الصحافة والإعلام من المشهد وتبقى قضايا الأمّة رهينة المؤتمرات الباهتة وبيانات الشجب المعتادة.


فأثناء قيام بطولة كرة قدم في قطر، تحول البلد إلى لوحة من الخيال ملاعب تلمع كالذهب، شوارع تُغلق بإتقان، آلاف الشرطة ينظمون المرور بابتسامة عريضة، الطائرات تقف في صف انتظار لتقلّ المشجعين، وأجهزة التكييف تُركب حتى في المدرجات، وكأننا نستعد لاستقبال رؤساء الكواكب الأخرى وليس جمهور مباراة. 

خُصصت المليارات لبناء ملاعب مكيفة ومشاريع بنية تحتية عملاقة، وجُندت عشرات آلاف قوات الأمن، وأُغلقت الشوارع بالكامل في أوقات المباريات.


أما دولة الإمارات فتسير على نفس الدرب، تُغلق مناطق بأكملها لإقامة بطولات الأندية، منصات عملاقة لمشاهدة المباريات في الهواء الطلق، عروض مجانية للمأكولات، ورحلات مجانية أو بأسعار رمزية للمشجعين أحياناً كجزء من “الاحتفال الوطني”، وأضواء الليزر تزين السماء.


 في نفس الوقت، لو طلبت شاحنة دواء إلى غزة، ستجد أن “الإجراءات معقدة” و”الإذن لم يصدر بعد”.


الأدهى ما تفعله المملكة السعودية تنقل المشجعين بطائرات خاصة من مدن مختلفة إلى المدن التي تستضيف المباريات، وتمنحهم إجازات رسمية من العمل، وتفتح الملاعب قبل ساعات طويلة من المباريات، وتوفر كل الخدمات الممكنة لراحة الجماهير وتوزع الأعلام عند بوابات الملاعب.


 وإذا اقترحت تخصيص طائرة واحدة للمسعفين المتجهين إلى غزّة… ستسمع عن “الظروف الأمنية” و”ضرورة التنسيق الدولي”!


حدّث ولا حرج عن الجمهورية الجزائرية، توقف شامل في حركة المرور في العاصمة وكل الولايات، شلل بالكامل أثناء نهائيات كأس إفريقيا، وغلق الشوارع المؤدية إلى الساحات الكبرى التي تنصب فيها شاشات عملاقة، وتجنيدٌ لفرقٍ طبية وسيارات إسعاف بالعشرات لمجرد التعامل مع حالات الإغماء من فرط الحماس تشجيعًا للاعب سدّد هدفًا بكرةٍ من جلدٍ منفوخ أجرب! والشرطة ترافق مواكب المشجعين والحكومة تعفي المواطنين من الدوام الكلي إلى دوام جزئي مدفوع الأجر.


 أما إذا أردت مرافقة أمنية لمسيرة تضامن مع الأقصى أو لإيقاف التجويع على الغزاويين، ستكتشف فجأة أن “المسيرات غير مرخّصة” وأن “الوقت غير مناسب” والفقر ينخر البلاد والأعداء متربّصون بالوطن.


 ولك أن تصمت تماما أمام ما تقوم به الحكومة المصرية، التي تحشد قوات الأمن أمام الاستادات، وتغلق الطرق المؤدية إليها، وتنشر وحدات التدخّل السريع، وتفرض طوقًا أمنيًا لحماية الجماهير، وتسمح للمجال الجوي بالعمل وفق مواعيد مرنة لاستيعاب تدفّق المشجعين، وتفتح القنوات الرسمية بثاً مستمراً للمباريات؛ لا ينقطع و لا يرمش لهم طرف وأفواههم مفتوحة.

وإن خرجت في مسيرات سلمية مناهضة لما يحدث من مجازر في فلسطين، الأمن لن يرافقك إلا إذا كان لفضّ الوقفة قبل أن ترفع اللافتة.


الدهشة تغلّف القلوب في المملكة المغربية أثناء المباريات، لدرجة أنها تجهز الساحات العامة بشاشات ضخمة، وتوفر مواقف مجانية للسيارات، وتنظم مواكب جماهيرية ضخمة مع مواكبة أمنية كاملة، وتخصص فرقاً إعلامية لبث الأجواء مباشرة على مدار الساعة. 


وإن سألت عن موكب إلى سفارة أجنبية احتجاجاً على قصف غزّة، سيقال لك “الطريق مغلق للصيانة” أو “لا توجد موافقة تنظيمية”!


كل هذه التحضيرات، وكل هذا الجهد، وكل هذه الأموال تصرف من أجل كرة منفوخة تضرب بالأرجل من طرف ذكور أغبياء طُردوا من الكليّات أو حتى لم يصلوا إلى المستوى الثانوي.

لا أحد من الشعب يقول إن التنظيم سيء، ولا أحد من المسؤولين يقول أن الميزانية لا تكفي. فجأة، كل شيء ممكن، حتى السفن تغير مسارها والطائرات تتجنّب المرور فوق الأجواء، لأن المختصين في غرف المراقبة منشغلون بالمشاهدة! صدّق أو لا تصدّق، إغلاق المدن رسميًا مصادقٌ عليه وتعطيل للتجارة بمرسوم والإقتصاد يتراجع من شدة الإنفاق الزائد عن الحدود، لدرجة إفراغ الخزينة العمومية.


ثم ننظر إلى المشهد المقابل… فلسطين.

أرض تحترق، بيوت تُهدّم، دماء الغزّاويين تسيل هباءً، أطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض مقطوعي الأرجل والأيدي غلبًا.


 هل رأيتم أي دولة عربية من هذه الدول مثلًا تغلق شارعاً واحداً تضامناً مع غزة؟

 هل رأيتم إجازة رسمية واحدة تُفرَض ليخرج الناس في مسيرات مليونية؟ 

 هل وُضعت شاشات عملاقة في الميادين لبث المجازر لحظة بلحظة كما تُبث المباريات؟ 

 هل سيّرت طائرات وسفن وقطارات وحافلات خاصة وعامة تحمل متطوعين ومتظاهرين ومعهم الإمدادات والمساعدات؟


  لوحدها قطر الدولة العربية الخليجية، أنفقت مئات المليارات على كأس العالم، 

فكم أنفقت على إيصال الغذاء إلى غزّة في ذروة الحصار؟

  الإمارات الدولة العربية الفاحشة الثراء، نظّمت ملايين الرحلات لمشجعي الأندية، 

هل نظمت رحلة واحدة للشباب العربي الراغب في التطوع الطبي أو الإغاثي لأخيه الغزاوي؟


   السعودية دولة عربية نفطية، أوقفت العمل ليوم كامل لأجل مباراة، هل أوقفت العمل ليومٍ واحد لأجل مظاهرة؛ تطالب بتحرير الأقصى أو في سبيل إيقاف التجويع المفروض على الفلسطينيين؟!


أم أنها تكتفي بالتبرع للأمريكان المتسولين بالتريليونات وترى ذلك خيرا لها وأفضل من تزويد الغزاويين الأقربين بالطعام؟


 تونس دولة عربية تفتح الساحات للاحتفال بفوز فريق، هل فتحتها للبكاء على أطفال فلسطين أو الغضب لأجلهم؟


  مصر دولة عربية كبيرة تغلق الشوارع حماية للجماهير، هل أغلقتها مرة واحدة لحماية مسيرة مؤيدة لفتح المعابر للفلسطينيين؟

  المملكة المغربية دولة عربية زخمة بالسياح الأجانب اليهود، تؤمّن مواكب الجماهير بحراسة كاملة، هل أمّنت مواكب تضامن مع غزّة بنفس القوة واللهفة؟


• تجدهم في الدور نصف النهائي والنهائي، مشدوهين، وعيونهم تدور مع الكرة؛ كأنهم مسحورون. ينتظرون صافرة النهاية ليفرحوا مع الفائز أو يسخروا من المهزوم، والخاسر الوحيد هم الذين… خسروا الله ورسوله وخسروا أنفسهم.


أولم يروا أنه إذا انتصر الفريق اللاعب أو خسر، لم يكسبوا شيئًا، سواءا كانوا له يهلّلون ويغنون ويرقصون، والله لا يحب الفرحين.


 وإذا فقد المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله لا يرفّ لهم جفن ولا هم يحزنون، ويزعمون أنهم محايدون وهم متمسكون بالصفوف الأولى من المشهد المخزي،


 فترى دول مثل تركيا وسوريا ولبنان والعراق وإيران والبحرين، تصفّق وتقرع الطبول لركلة جزاء، وتقفز لأجل رمية أو تسديدة، بينما لا يُذكر في سجلاتهم اللابطولية شيء يُحسب نصرةً لأصدقائهم كما يدّعون موالتهم للفلسطينيين، إلا بيانات فارغة، خاوية على عروشها من الصدق والحقيقة، كلماتها المراوغة لا تُطعم جائعًا على الأرض المقدسة ولا تردّ صاروخًا عن سماءها ولا تسكت صراخ طفل يتيم،


• هنا يظهر التناقض الفاضح ويا لها من مفارقة غريبة، عندما يتعلّق الأمر بكرةٍ من جلد حيوان ميت أجرب، تصبح الحكومات الخائنة بارعة في الحشد والتنظيم والتأطير وتوفير كل ما يلزم من خدمات وأمن وأمان. 

أما عندما يتعلّق الأمر بأرض فلسطين والأقصى المقدس أولى القبلتين، فجأة يصبح الكلّ "أصمّ، أبكم، أعمى"

وكل شيء معقداً على الأعراب والحجج الواهية تتصبّب وتتماطر لتطرح على الطاولات بالمئات والتعامل يصبح بالأوراق وتبرم إجتماعات النفاق الفارغة "إن الوضع حساس!"، "إن الظروف غير مواتية ولا يسمح لنا بالتدخل!!"، "لا بد من حسابات سياسية!!!"...

وكأن الحسابات تسقط فجأة في المدرّجات، لكنها تعود بكل ثقلها عندما يكون الميدان هو القدس والشعب المستضعف المعزول والمحاصر من كل الجهات.


الجماهير نفسها لا تقلّ تناقضاً وخيانة، يملؤون الشوارع بأعلام الأندية والمنتخبات والفرق الوطنية، ويصرخون حتى الصبح لأجل هدفٍ في مباراة في شبكة الوهن للخصم، لكنهم يتكاسلون عن الخروج لأجل دمّ شهيدٍ لا يعرفون حتى اسمه؛ يسيل على أرض المقدس الطاهر. 

يعرفون أرقام قمصان اللاعبين وأسماءهم واحد بواحد ومتى وكيف وبأي طريقة سدّدوا أهدافهم وحتى ملامح وجوههم في تلك اللحظة التي ترسخت في أذهانهم نظرا لأهميتها عندهم، ويا للأسف! لا يعرفون أسماء الشهداء الذين سقطوا على يد الصهاينة أو تواريخ المجازر التي أريقت فيها المئات والألاف كل يوم. 

يحفظون أسماء المهاجمين والوسط والدفاع، لكنهم لا يعرفون اسم شهيد واحد في غزّة.

يضعون صور اللاعبين على صفحاتهم، لكنهم يمرون مرور الكرام على صور الأطفال الشهداء؛ لأنها تتعبهم نفسيًا وتعكّر صفو مزاجهم.

 أليس هذا دليلاً دامغاً على أن الكرة، تحظى باهتمام وموارد وتنظيم يفوق بأضعاف ما يُمنح لقضية الأمّة الأولى؟!


 أليست هذه مفارقة أخلاقية تكشف أن أولويات الدول العربية حكومةً وشعبًا، مقلوبة رأساً على عقب؟!


إنها خلاصة ميدانية على الأراضي العربية،

لما يكون الهدف الأسمى هو مباراة كرة قدم؛ يصبح المال كافي ويزيد، الأمن قائم، النقل متوفر، الشاشات الضخمة جاهزة، الإجازات ممكنة وغير مستحيلة والحكومة لأجل ذلك تغضّ الطرف عن سير اقتصادها،

أما لما يكون الهدف هو الأقصى المقدس أو غزّة؛ فجأة المال تبخر، والأمن غير كافٍ، والنقل توقف، والشاشات معطلة، وأما الإجازات فتتحول إلى أحلام رومانسية وردية وغير قابلة للتحقق أو النقاش فيها.


سأقول لكم حقيقة أخرى، وهي المفارقة الذهبية؛ الأعراب على استعداد أن يكسّروا كل الكراسي في المدرجات إن لم تُبثّ المباراة، لكنهم لا ولن يكسروا حتى صمتهم إذا هدّم الاحتلال بيت المقدس.


 الأعراب مستعدون أن يقيموا الدنيا ولا يقعدونها إذا أضاع لاعب ركلة جزاء، لكنهم سيبتسمون ببرودة أعصاب إذا أضاع طفلٌ حياته تحت الأنقاض.


نصيحة واقعية وشرّ البلية ما يُضحك، 

لو أرادت إسرائيل هدم المسجد الأقصى، يكفي أن تنظم مباراة نصف نهائية ونهائية في نفس الأسبوع، وستجد الملايين من الجماهير من رجال ونساء وشيوخ وأطفال الأعراب مشدودين إلى الشاشات في المدرجات تصرخ “جووول!” “جووول!” “جووول!”


، بينما الحفارات تعمل بهدوء على أنقاض المسجد الأقصى المقدس. 

والتاريخ لا يرحم ولن ينسى هذا المشهد الحزين لأمّة مات ضميرها و جن جنونها وهي تهتف لكرة تُركل بالأرجل بينما تُسلب منها الأرض والأقصى والعرض والشرف.


  سؤال أخير كامتحان نهائي تطرحه أرض السلام عليكم أيّها الأعراب:

أيّهم أغلى وأثمن عند الله ورسوله؛ وكلكم مسؤول عن


كأس تافه لعالم مريض تُعرض في المتاحف؟ أم هدم الأقصى أولى القبلتين ؟


الإجابة متروكة لمن يرى أن مباراة 90 دقيقة تستحق من الحشد والتنظيم ما لا تستحقه قضية عمرها 77 عاماً.


أما توصيتي لليهود وليسخروا من البلهاء،

إذا أردتم للأعراب أن يحتشدوا لأجل مسألة فلسطين، فليعلن الاتحاد الدولي أن القدس ستستضيف نهائي كأس العالم. صدقوا… لن يبقى مقعد واحد فارغ، وسيأتي المشجعون في مظاهرات أولها في الأقصى وآخرها في بلدانهم؛ ليضحوا بأنفسهم لحماية “الملعب” من أي تشويش أو اعتداء، حتى لو كان هذا الملعب هو المسجد الأقصى.

نقطة… وانتهى.

تعليقات