العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ: مطرب العاطفة والشباب
في زمن لا تنبع فيه الأرواح إلاّ من نبع الفن الأصيل ، حيث كانت الكلمة تحمل هيبتها ، واللحن ينضح صدقًا من الأعماق ، يتربع عبد الحليم حافظ [ مطرب العاطفة والشباب ومعبود الجماهير ] على عرش الغناء العربي كواحد من الرموز الخالدة ، التي صنعت مجد الفن الجميل وسطرته بأحرف من ذهب .
رحل زمن العمالقة ، زمن أم كلثوم — هرم مصر الخامس ، ومحمد عبد الوهاب — موسيقار الأجيال ، ووردة الجزائرية ، وشادية ، وفائزة أحمد ، وجيل كامل من الأصوات النادرة التي شكّلت الضمير الغنائي للأمة العربية ، وما يزال عبد الحليم حافظ ، العندليب الأسمر ، يحتفظ بمكانته السامقة في وجدان الملايين .
■ عبد الحليم: حكاية صوت لا يشبه أحدًا ■
لا يقارن عبد الحليم حافظ بأي فنان آخر ، لا عربياً ولا عالمياً.
لم يكن صوتًا فقط ، بل كان إحساسًا متدفقًا ومزاجًا خاصًا يعبّر عن آلام العاشقين ، أحلام الشباب ، وجراح المحرومين.
لم يقف على المسرح ليغني فحسب، بل ليذوب في الأغنية حتى آخر طاقته ، حتى أصبح جزءًا من وجدان جمهوره الذي بادلَه الحب والوفاء حتى صار "حبيب الملايين ".
أبدع عبد الحليم في فن الأداء بلا منافس ، صوته صافٍ كالماء الرقراق عذب حيناً ، متفجّر بالعواطف أحياناً أخرى.
تميز بقدرته الفائقة على المزج بين الغناء والمسرح ، إذ كان على المسرح ما يشبه المايسترو الذي يقود الفرقة الماسية بإيماءة اليد ونظرة العين.
كان إذا هزّ رأسه ، طربت القلوب ، وإذا التفت بيده ، إبتسمت الأرواح.
هو صاحب الكاريزما التي لا تخطئها عين ، وصاحب الأناقة التي تدلّ على ذوق رفيع وفنٍّ عاشه بكل خلاياه .
■ حياة أقصر من الحلم، وأثرٌ باقٍ للأبد ■
لقد وهب عبد الحليم كل ما يملك للفن ، لم يدخر صحته ولا دمه ولا عمره ، حتى ظلّ مطرب العاطفة والشباب حتى اللحظة الأخيرة من حياته الدراماتيكية.
تحدى المرض بعزيمة المؤمن ، والغربة عن النفس بحب الناس ، فلم يقدر قلبه المُنهك أن يقاوم شوقه الدائم للمسرح ، ولا جسده النحيل أن يفرّ من عشق الأغنية.
كان يغني للجميع : للعشاق ، للمحرومين ، لثورة العطاء ، للوطن والتراب ، للدمعة والبسمة … لهذا بقي حاضرًا في القلوب، ولم يمت فعلاً.
■ عبقرية موسيقية وثقافة لا مثيل لها ■
لم يكن عبد الحليم مطربًا وسيمًا وصاحب شعبية هائلة فقط ، إنما كان مثقفًا ، أديبًا في روح فنان.
أتقن موسيقى الدنيا ، وعزف على كل آلة موسيقية ، وتعاون مع كبار الشعراء والملحنين ليقدّم روائع خالدة.
ثقافته الموسيقية والأدبية جعلت منه رمزاً فذًا ، وجعلت أعماله مدرسة فنية يتعلم منها الأجيال.
غنّى لشعراء بمستوى نزار قباني وصلاح جاهين ، وتحامل على آلامه ليرسم بسمة على شفاه الوطن.
نجم في سماء الملوك والرؤساء … وأيقونة أبدية عند الشعوب
عبد الحليم لم يكن رمز الطبقات الشعبية فقط ، بل كان ضيف القصور والملوك والرؤساء.
إستقبله الجميع بحفاوة ، حتى أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر زاره في منزله ، تقديرًا لفنه وأثره.
وفي الغرب أيضاً ، عندما غنى هناك، شهد له الجميع أن صوته يمسّ القلب حتى من لا يفهم العربية ، فالإحساس لغة عالمية، وعبد الحليم كان ينطقها ببراعة لا تُضاهى .
■ العندليب… أسطورة ما زالت تغرد ■
ما يدهش في عبد الحليم أنه لم يغب عن ذاكرة الشعوب العربية، رغم مرور عقود على رحيله. كل جيل يكتشف فيه شيئًا فريدًا، ويرى فيه رمزًا للجمال والصدق. بقي صورة متوهجة للفن الأصيل الراقي، وللأناقة والسحر حيث تربينا على أغانيه منذ نعومة أضافرنا .
في كلمة فهو فلتة من فلتات الزمن الجميل وكما قال موسيقار الأجيال فهو بصمة لن تتكرر في عالم الفن .
ألف رحمة ونور على روحه الطاهرة الزكية ../.
تعليقات
إرسال تعليق