القائمة الرئيسية

الصفحات

كلمة حق بقلمي الأدبية والمفكرة الجزائرية الدكتورة حكيمة جعدوني



بصفتي عضوًا دائم في هيئة الأمم المتحدة - UN و كاتبة وباحثة معتمدة لدى جامعة اليونسكو للسلام وحقوق الإنسان - UNESCO Union ,ومؤسسة العدالة والسلام الدولي.

 أحمل أمانة الكلمة والمسؤولية، أمام مسألة تهزّ الضمير الإنساني قبل الرأي العام وتفرض علينا جميعا أن ندعم قضية الطبيبة النفسية العراقية، المقتولة غدرا. 


أوجه رسالتي هذه إلى الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.


برفض قرار محكمة استئناف البصرة القاضي بتصنيف القضية كـ "انتحار".


تدويل القضية عبر تشكيل لجنة تحقيق جنائية دولية تحت إشراف الأمم المتحدة.


إشراك خبراء دوليين محايدين في مجال الطب العدلي لضمان الشفافيه.


 إلزام السلطات العراقية بالكشف الكامل عن نتائج التحقيقات والتقارير الطبية والأدلة للرأي العام الدولي.


إن تدخل الأمم المتحدة العاجل في هذه القضية يعد أمرا بالغ الأهمية من أجل انصاف الضحية وضمان العدالة وحماية المدافعين عن حقوق الانسان في العراق 


مع فائق الاحترام.


قضية الدكتورة "بان زياد طارق" بقلمي الأديبة والمفكرة الجزائرية الدكتورة حكيمة جعدوني.


تأثير العائلة المختلة على الطفل السوي، إما أن يقوده إلى الجنون أو يسلمه إلى القتل بيد أقرب الناس إليه.   


في بيوت قدّر أن تكون منارات للرحمة، قد يسكن ليل عاتم يحوّل الحنان إلى قيد، والمحبّة إلى خيانة. فالطفل السويّ إذا نشأ بين جدران مختلّة، إمّا أن يذوب عقله في بحر الجنون، أو يلقى جسده على مذبح القربان بيد من أحبّ.


دماء "بان" دماء هدرت على التراب، وحبر سريّ خطّت به صفحات في كتاب الغيب. جريمة صوّرت بالكاميرات، كأنها مشهد في مسرح كتب في سماء تغزل خيوطها أياد غير مرئية.


الأستاذ الجامعي العاشق والمرفوض عبارة عن أداة، والرصاصة وتر في عود يعزف عليه الساسة. والقضاة يسألون بخبث أهو قاتل عاقل أم مجنون؟ وكأن السؤال مرآة تكسر عمدا ليشوّه وجه العدالة.


أما الفتاة "بان" ذات الشعبية، فقد وضعت بين كفّتين إمّا أن تبيع شرفها وتخون عملها، أو أن تقدّم نفسها قربانا. وما إن رأت أمها وأباها وأخاها في السيارات الثلاث حتى اطمأنّت، لأن القلب إذا رأى الألفة غفا، حتى لو كان النوم على مقصلة. لم تدر أن العائلة تحوّلت إلى ستار رقيق، يخفي وراءه بوابة المعبد الماسوني.


 هكذا ينكشف المكر، البيت يصبح سجنا، والعائلة بوابة نحو الغدر، والدم رسالة مكتوبة بلغة تقرأ في محافل الليل. 


،؛، إذا خانك القريب، فاعلم أنّ الابتلاء رسالة من السماء، وأنّ الخيانة طريق إلى معرفة الحقيقة.،؛،


فمأساة الفتاة لا تعتبر حادثة عرضية، وإنما هي إشعار بأنّ الكل حولها يسير وفق خطط مدروسة. هناك من يكتب الجريمة، وهناك من يؤدّي الأدوار، وهناك من يساق إلى الذبح وهو يبتسم، لأن القدر كان قد وقّع باسمها من زمن بعيد.


على يد المرأة التي تخفّت وراء حجاب أسود كانت صديقة أخ الضحية وليست زوجة المحافظ كما توهّموا، ولم يكن ممكنًا أن تقاد الضحية لو كانت من بيت المتربصين. لا .. لقد كانت يد العائلة نفسها هي التي دفعتها إلى الذبح؛ اليد التي كان يُفترض أن تكون مأوى، تحولت إلى مشرط القدر.


سقيت الفتاة من كأسٍ مخدرة، دسّها أخ باع روحه في سوق الخيانة. أسدل عليه الظلام ستاره، بينما أخته التي ظنت أنها بين آيادي آمنة، أخرجت كالحمل الوديع إلى مسرح آخر، حيث السوء يحاك بطرق شيطانية. هناك، في محفل غارق في رموز خفية، قدّمت قربانا لأنها كانت عذراء، طاهرة كنسمة الفجر، لم تمسها خطيئة. وهنالك، حيث تلتقي الدماء بظلال الطقوس، جرى تمزيق جسدها كما لو أن نهرا من الألم قد فجّر من قلب القسوة.


وكتب أحدهم بدمها على الباب "أريد الله". لكن ما أبعد ما بين المعنى وما بين القصد! ففي العرفان، "أريد الله" هي صرخة عابد يفتّش عن نوره الأبدي؛ أما هنا فقد غدت قناعًا شيطانيًا، انتحل القداسة ليستر خيانة الروح. العبارة انقسمت إلى نصفين متناقضين، نصفٌ يعلو إلى السماء، ونصفٌ يُغرق صاحبه في الهاوية.


المرأة التي خطّت الحروف لم تكن زوجة المحافظ، ولا أمًا للضحية؛ وإنما غريبة عنها، عاشت في ظل والدها المنحرف، الذي كان يزني بها منذ طفولتها فنشأت بلا كرامة ولا شرف، زانية مقهورة، تُخفي وجهها كما يخفي الليل عاره. 


الزانية المريضة غرست خنجر الحقد في بطن العذراء وفرجها، لتقتل جسدها، وتطفئ النور الكامن في طهرها. لقد كان فعلها حسدا لرغبة أكبر منها؛ رغبة القوى التي تقتات على دماء الطاهرين، وهي أيضا من كتبت عبارة "أريد الله" على ظهر الباب بدم الضحية.


أما الحرف المودع في شكل الألف، فقد أفصح عن أن الجريمة تعدت اليد الواحدة، وإنما ثلاثا وأكثر، الأخ الذي دسّ المخدر ثم اغتصب أخته، الرجال الذين تمادوا في فوضى اللحم والدم، والذين جعلوا من صرخاتها طقسا يفتح لهم بابا إلى عوالم الظلام. قتلوا الجسد وجعلوا منه جسرا يمرّون عليه نحو المجهول.


لقد مثّل بها حتى انبثق من جسدها ذلك الإكسير الكيميائي الذي يلهث وراءه السحرة والماسونيون، مادة الألم والاندورفين، قطرة من عسل أسود يستخرج من لبّ العذاب وفقط. ولهذا لم تذبح في بيتها؛ فالبيت نور، والنور يفضح، أما محفل الظلام فهو القادر على احتواء الدماء دون أن يشي بأسرارها.


الطبيبة النفسية لم تقتل دفعة واحدة؛ بل صارت مسرحا يتصارع فيه البقاء والفناء. قطّعت أطرافها وهي لا تزال تسمع وترى، وكانت كل طعنة معبرا إلى معنى أعمق.


أما حروف كلمة "الله" في الباب، فقد كشفت عن تورّط اثنين آخرين؛ بإتفاق مباشر مع الآخ المضطرب ؛ أحدهما قاتل الطالبة الذي أُطلق من قيده ليعود ويكمل رقصة الدم، والآخر المحافظ نفسه، الذي خلع قناع السلطة ليلبس قناع المذبح. كلاهما دخلا المسرح، والعائلة من حولهم صامتة، مسحورون كالأصنام. عائلة خانعة لوعيد الشيطان ووعد الذهب.


وهكذا، لم تعد المأساة جريمة في بيت واحد، بل صارت لوحة فنية لصراع بين الأبيض والأسود، بين الحب الإلهي الذي يتجلّى في عبارة "أريد الله" الصافية، وبين التحريف الماسوني الذي يلطّخها بدم بريئة. كأن الضحية، في موتها، صارت شهيدة الحقيقة؛ جثتها تراب الثرى، ودمها حبر كتب به القدر فصلا من فصول الصراع الأزلي بين إبليس وآدم.

السؤال الجوهري ظلّ يرنّ في فضاء الأسرار؛ هل كانت العائلة تعرف أن ابنتهم ستذبح وتقدم كقربان؟


الجواب لا. لكن لما دخلوا المحفل الماسوني، حيث الظلال تغلق كل منفذ للنور، وجدوا أنفسهم محاصرين داخل قدر لا مفرّ منه. وحين رأوا الأخ يفتك بأخته ويمارس عليها فحشه، صمتوا. بل أسلموا ضميرهم للثراء والذهب، ورضوا بأن تقدّم ابنتهم طوعا قربانا، كما يقدّم الحمل للنار.


لكن ما لم يلتفت إليه أحد هو أن المنظمة نفسها أرادت أن تنشر المأساة على أجنحة الشاشات، لتتردد في الآفاق العالمية كأصداء طبل كونيّ، لا تريد القتل لذاته، بل الفضيحة أن تصبح طقسا جماعيا، يشاهد عبر العيون الإلكترونية. إنّه المستوى الخفي من الجريمة حيث يصبح الموت مسرحا جنونيا، يبثّ على الملأ، لتتغذى الأرواح الظلمانية على خوف الشعوب.


أما الأخ ذاك الذي كان يفترض أن يكون سندا، فقد انكشفت صورته الحقيقية كقاتل محترف، أكل من لحوم ضحاياه كما يأكل الذئب من القطيع. فرد مختل ومرآة للشيطنة لما تتجسّد في إنسان. سخر من أخته قبل موتها، واختبرها في حوارات رقمية: «إن كنت بارعة في علوم النفس، فهل تستطيعين أن تفرّقي بين المقتول والمنتحر؟»؛ وكأنه يعلن نبوءته الإبليسية أنا قاتلك، وأنا المتخصّص هنا.


لقد كان شاذا، ماسونيا، سليل الظلام. حتى الأم، التي سلبت من إنسانيتها بعقدة «شرف الابن»، كانت تتمنى أن تستسلم ابنتها لأخيها، كي لا يفضح. فإذا كان عذر الأم تهديدا، فالكاميرات التي وثّقت المأساة، فضحت الحقيقة لخيانة كبرى.

••

مقتل الطبيبة العراقية "بان"، جريمة شرف باطني أغلقت العائلة عليها الأبواب حتى لا تنكشف أمام الإعلام العالمي، هذا من جهة ومن جهة ثانية؛ 

هذه القضية مثال نموذجي على كيفية استخدام السياسة للتلاعب بالقضاء وحياة الناس، حيث طلب من "بان" أن تغيّر تشخيصها ضدّ القاتل لتضليل العدالة وتبرئته. بصفتها تشغل منصب مشرفة ورئيسة لجنة تقييم الصحة النفسية للمدعو ضرغام التميمي،

 وهو شقيق زوجة محافظ البصرة أسعد العيداني. لكنها (بان) رفضت كتابة تقرير يصفه بالمريض النفسي، وهو ما كان قد يمنع تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه في حزيران يونيو الماضي، وبعد تصفيتها روّج الساسة أنها كانت تعاني من ضغوط ومريضة نفسيًا، وأنها انتحرت وكتبت عبارة “أريد الله”. 

بهدف تشويه صورتها وإظهارها كشخص غير سليم عقليًا، مما ينسف مصداقية تقريرها السابق ضد ضرغام.  

بعد وفاة" بان"، تم إلغاء تقرير اللجنة الذي ترأسته، وأُعيد التقييم من جديد، في خطوة واضحة لفتح الطريق أمام تبرئة ضرغام أو تخفيف حكمه، وذلك عبر ادعاء إصابته بالجنون.


الفتاة، في سكنتها ووحدتها، لجأت إلى مكتبها كملاذ من تحرّش أخيها وشذوذه، كمن يلوذ بكهف من صخب العالم. لكنها اطمأنت يوم عادت معها أمها وأبوها، فظنّت أنّهم حماة، فإذا بهم خونة. وربما حتى الأم شاهدت بأم عينيها التسجيلات التي تدين ابنها في زنا المحارم، لكنها أغمضت بصرها، وأظهرت أمام الناس ثقة باردة، كأن شيئا لم يكن.


وحدها أختها، التي لم ترث جمالها ولا نورها، حزنت قليلا؛ كان حزنها ضعيفا لكنه صادق، قطرة ماء في صحراء قاحلة.


أما جسد الضحية، فقد صار كتابا مفتوحا على حقائق الجريمة الشنعاء، ضربات في الظهر دلّت على مماراسات اللواط المحرم، جراحات في البطن من سكين كان بيد المحافظ والمرأة الزانية، وآثار حبل علق في العنق تخلخلت به العظام، وكدمات في الساقين من وطىء أقدام المعتدين لإخضاعها. 


لو جرى التشريح بصدق، لانكشف وجود آثار إنتهاك عرض من طرف أكثر من خمسة ذئاب بشرية. كانوا يشدّونها وهي تقاوم بقوة غريبة، كأن نفسا ربانيا كان يسري في جسدها رغم المخدّر، إيمانها دفعها للصراخ في وجه الجلادين.


كل شيء وثّق بالكاميرات، وما تعطّل شيء. ثم أُعيدت جثتها إلى البيت كمن يعيد تمثالا مشروخا، والأم هي من أدخلتها البيت بيدها، تنكر جريمة ولدها لتحميه من العقاب. قالت الأم عن إبنتها أنها مريضة نفسيا و «انتحرت»، وزعمت أنّ ابنتها قتلت نفسها. لكنها لم تدرك أن آثار الطعنات على الجسد، والكتابة على ظهر باب الحمام، تشهد أن القاتل كان مضطربا ونسي أدواته في المحفل، وأن الجريمة أوسع من أن تختزل بكذبة.


الفتاة كانت كشمعة تأبى أن تنطفئ أمام ريح الظالم. جرحت، أهينت، كسرت أضلاعها، لكنها حملت جرحها كراية بيضاء تقول للسماء "لن أبيع حقي، ولو دفعت روحي ثمنا."

كانت دموعها ماء نقيا يصعد نحو العرش، يشهد على أن الحق لا يمكن أن يستباح مهما اشتدّ الظلام.

هي روح حافظت على جوهرها، فباتت شهادتها عطرا في أروقة التاريخ، تضيء لمن يأتي بعدها.


أما أمها، فقد ذابت في ظلام الجريمة حتى غلبها الوهم، فرأت في وجه الجلاد قناعًا من رحمة كاذبة.

مدّت يدها إليه كما يمدّ الغريق يده إلى من أغرقه، وأخذت تلمّع صورته أمام الناس، لتقنع قلبها بأن ما حدث لم يكن جرحا بل قدرا لا يقاوَم.

لكنها ما فعلت سوى أن أصبحت مرآة للظلم، تجمّل وجه المغتصب وتخون الحقيقة في داخلها.


وهكذا، في حساب الدنيا ابنتها ارتقت، لأنها واجهت القدر بوعي، فثبتت في صفّ الصبر. والأم سقطت، لأنها سلّمت نفسها للنفاق وظنّت أن الخضوع خلاص، بينما هو موت الروح قبل الجسد.


فالظالم في الحياة ليس شخصا فقط، بل هو ظلّ أسود يختبر الأنفس، من تصمد أمامه تشبه الطيور التي تعبر الفجر، ومن تنكسر بين يديه تتحوّل إلى صدى ضائع في وادي العدم.


الأكثر إيلاما أن العالم كلّه بكى لحالها، إلا الأم والأب؛ ظهرا بلا دمعة، بلا ارتجاف، وكأن الحجر ألين من قلوبهما. إنهما غارقان في عالم مقلوب، حيث ممارستهما اللواط المحرم في الزوجية يبدّل المعايير، والضمير يسلّم للعدم. باعا ابنتهما كما تباع السلعة، لينقذوا الابن المفضّل. بل إن الأم بدت وكأنها تحررت من عبء منافسة ابنة أشرف وأجمل منها وأرفع مكانة، فارتاحت حين أُزيحت عن طريقها.


ثم جاءت شهادة الصديقة المقربة منها، التي قالت إن الفتاة قبل موتها أخبرتها بقولها «حياتي مهددة». لكن صوتها انقطع في الفراغ، فالقدر سبق العدل، والسكين سبق القانون.

حاربت صديقتها لإظهار الغموض الذي يكتنف القضية بكل استطاعتها لأنها كانت تؤمن أن الفتاة عذراء ومحترمة ولم تتنازل عن شرفها ولا عن حقها وطلبت منها ألا تتخلى عن دمها المهدور، إن تعرضت للقتل يوما من خلال رسالة تركتها لها على حسابها،

وهكذا صار المشهد فصلا آخر من مسرح الوجود؛ الابنة الطاهرة؛ ذبحت في معبد الظلمة، الأخ وحش جبان أكل لحم الدم، الأم والأب أصنام بلا روح، والمجرمون لو علموا أن لها أخ رجل حقيقيا ووالد رجلا حقيقيا لما تجرأوا عليها. والعالم المتخاذل كله مرايا تبكي إلا بيتها؛ بيت سلب منه العطف.


ها نحن نبلغ المستوى السياسي؛ ذاك الذي يتجاوز الأجساد الممزقة ليطال جسد الأمة.

حين انكشفت الفاجعة أمام أعين العالم، وحين تدفقت الصور والمقاطع على الشاشات كدم سكب في نهر دجلة والفرات بلا نهاية، أيّ صورة سترسم لأرض الرافدين؟ أي عراق هذا الذي يظهر أمام الأمم وقد صوّر على أنه مرتع للفوضى والقتل، أرض لا يحكمها إلا قضاة فاسدين و السكاكين والأهواء؟


إن القراءة الأعمق تشير إلى أن مقتل الطبيبة لم يكن استهدافًا لامرأة بعينها، بل كان طعنة في وجه العراق كله. أرادوا أن يظهروه كأرض متصدعة، تحكمها عصابات وعائلات ذئاب، يتواطأ مع وحشيتها سياسيون كالتماثيل، فيغدو التدخل الخارجي مبررا، بل واجبا في منطق القوى الكبرى. عندها لن يكون غريبا أن تمدّ إسرائيل خيوطها في أرض السوماريين والآشوريين، أو أن تدخل إيران على خط النار، فالجميع ينتظر ساعة الانقضاض، مستغلين غضب الشارع المقهور.


لكن الخزي الأكبر في هذا المخطط هو أن الشعب يترك ليصرخ ويطالب، ثم حين يسقط حاكم أو يقال مسؤول، لا يعطى الشعب حق الاختيار، بل يفرض عليه من يختار بعناية، بيادق صغيرة على رقعة شطرنج كبرى. هكذا يربك الداخل ليتحكم به من الخارج، ويصنع عراق هشّ، يعاد رسم حدوده كي يدمج في خريطة الوعد القادم “إسرائيل الكبرى”، تلك الأسطورة السوداء التي تريد اقتطاع أرض من جسد العراق لتغدو جزءا من مشروعها.


وليس بعيدا عن ذلك يرنّ في الأذن الحديث الشريف «سيتجمع المنافقون في البصرة». وكأن البصرة، جوهرة الماء والنخيل، ستصبح مجلسا للشياطين، يخططون فيها لتشتيت الأمة، ويحوّلون الميناء إلى معبد لمؤامرات عبادة الشيطان.


أما الطبيبة المغدور بها، فإن روحها الآن ترفرف في حدائق الجنان، حيث السكينة تكسوها، بعيدا عن جحيم الأرض. لقد كانت مجرد قربان وضع على مذبح السياسة القذرة، لكن دمها لم يهدر؛ إنه حبر خفي، كتبت به صفحات من مؤامرات ستنكشف آجلا أو عاجلا.


وأنا لا أستطيع إلا أن أربط بين ما جرى وما كتبته في القصة الواقعية القصيرة «الجاني والمجني عليه»، التي نشرتها في السابع من يوليو 2025, عن قاض باع عدله بالمال، تستّر على مغتصب ومجرم، فترك فتاة طاهرة مقطعة الأوصال على رفوف النسيان. لكن العدالة السماوية لم تمهله، فإذا بابنته تقع فريسة لنفس الوحش الذي برّأه بيده.


والمفزع أن ما كتبته في القصة وقع بعد شهر كأنه نبوءة بأدق مشاهدها، التفاصيل ذاتها، وبالارتباك ذاته غير أن الفرق هائل. في القصة كان الأب مقهورا، يصارع من أجل ابنته المذبوحة؛ أما هنا، فالأب والأم كانا جزءا من المذبحة، صامتين أمام الدم، متواطئين مع القاتل ابنهم. وكأن العراق نفسه صار أسرة مختلة، الآباء فيها يبيعون الأبناء، والأرض فيها تسلّم للأعداء.


هكذا يتجلى المشهد الحزين، الضحية ليست فردا، وإنما وطنا.

الجريمة تعدت الطقس العائلي لتصبح مشروعا وطنيا.

والدم المسفوك سقى التراب وصار مدادا لرسم خرائط جديدة. 


وفي جوف الظلام إنبعث النور الإلهي على !؟ يد الإمام العادل التي إمتدت بكل حب للضحية ولتأخذ بحقها من أعناق الظالمين.


حين يُصاب البيت بالعتمة، يغدو أشبه بمرآة صدئة لا تعكس سوى وجوه مشوّهة. هناك، يولد طفل مائل عن الاستقامة، فتغدق عليه الأسرة دلالا أعمى، كما يسقى العشب السام بقطرات ماء نقية. وفيما يهمل الأبناء الآخرون، يرفع هذا المنحرف على كرسي وهمي، يغضّ الطرف عن صغائره، وتسامح كبائره، حتى يصير ظلّا معتما يتمدّد على الجميع.


تغدو البنت في حضرته كالوردة في بستان مهجور، يمدّ يده إليهنّ بالتحرّش، فلا يجد من والديه إلا التصفيق الصامت، وكأن الجريمة قدرٌ ينبغي أن يُبتلع دون شكوى. بل إن الأم، وقد حملت في صدرها حقدا قديمًا من تاريخها الوسخ الجريح، لم ترد لبنتها أن تظل أنقى منها، فحسدتها على صمودها، وباركت سقوطها كما باركت من قبل انحراف ابنها.


هكذا، لما وقعت المأساة على الابنة الطاهرة الناجحة، شعرت الأم براحة خبيثة، كأنما انتقمت من ابنتها العفيفة و قالت في نفسها "الآن تذوقت إبنتي الخراب و ما ذقته أنا، وانكسرت كما انكسرت من قبل."


إن هذه العائلة لم تكن بيتا من أفراد سويين، بل مسرحا صغيرا يعيد تمثيل دراما الكواليس خلف الأبواب المغلقة للأسرة العربية، الفاسد يحمي الفاسد، والنفس المريضة تبرّر للمريض، والحقائق تغسل في أنهار الكذب حتى يغدو الضحية متّهما، والبريء مجنونا.


وفي هذا المشهد، تتجلى صورة معبرة أعظم فالمنحرف كائن لا يرى الخير ولا يسمع لغة الحب، إنما يعرف شهوته وحدها. يختزل الإنسان إلى جسد، والروح إلى غريزة، حتى يصبح سفّاحا بلا قلب. وهنا يتجلى معنى العذاب القرآني لقوم لوط، إذ رفعوا إلى السماء ثم ألقوا على وجوههم، لأن معاييرهم كانت مقلوبة، يغتصبون ثم يلومون، يفسدون ثم يتّهمون غيرهم بالفساد، مختلون ومجانين ويرمون العقلاء بما فيهم من عفن، 


لا يمكن أن تكون جريمة عائلة وتصفيات، وإنما صورة الوجود حين يختلّ ميزانه. لما يتواطأ الصمت مع الشر، ينبت الظلام في أرحام النور، ويذبح الطاهر بسكين المريض.

فالبيت المريض، في النهاية، لا ينجب إلا قاتله، ولا يحتفي إلا بخراب ذاته.


• رؤيا حق

بتاريخ 27 صفر 1447 هـ، الموافق لـ 21 أوت 2025 م، رأيت في منام صادق رؤيا عن الطبيبة النفسية، الضحية الشهيدة.


كانت على أعتاب باب الجنّة تقف، مطأطئة الرأس، كأنها ما تزال تحمل في روحها ندوب الدنيا وآثار الجريمة التي أطفأت جسدها، لكن لم تطفئ روحها. يداها معقودتان بخيط أسود، ترتعشان خوفا من قيد الظلم الذي خنقها في الحياة.

كان شعرها أسود طويلا ينساب كليل عميق، وثوبها أبيض ناصع يفيض نورا طاهرا؛ فبدت كأنها آسيا بنت مزاحم حين نجّاها الله من بطش فرعون.

سمعتها تهمس بصوت متقطّع، متسارع، يشبه أنين الأرواح المظلومة "انتظروا… أمهلوني… أعطوني شربة ماء."


كانت عطشى عطش المقتول ظلما، جاثية على ركبتيها، تميل نحو بركة ماء صافية جعلها الله أمامها رحمة لها. مدت يديها كالغريق المشتاق، وأخذت تغرف من الماء وتغرف، حتى ارتوى جوفها، وتبلل وجهها بنور الشربة الأولى والأخيرة.

حينها، أقبل ملكان بأجنحة من نور، أحدهما عن يمينها والآخر عن شمالها. أمسك كلّ منهما بمعصميها، اللذين جرحوا وتحرّرا من قيد الظلم. وقالا لها بكلمات تشبه بشائر الأنبياء "خرجت من الدنيا، وهذه الشربة آخر رزقك فيها. حرمت منها حيّة، فأعطيت لك بعد موتك. وبها اكتمل نصيبك، وانقطع ما بينك وما بين دار الفناء ودار البقاء."، فاستراحت من عطش الدنيا، وشربت من ماء الآخرة، الذي لا يقطع ولا يمنع.


لقد كان عطشها في الرؤيا تجلّيا لحقيقة المقتول ظلما؛ فكل دم أهدر على الأرض، يترك صاحبه ظامئا، حتى إذا بلغ رحاب رحمة الله، سقاه من رزق خاص، ليطهّره ويريحه.


ثم رفعاها الملكان عاليا، حتى صارت روحها تحلّق في سماء بيضاء، إلى أن دخلا بها جنّة محفوفة بالشجر، تظلّلها النخيل كما قال الحقّ وحففناهما بنخل.

تعليقات