القائمة الرئيسية

الصفحات

• الحقيقة: إذا قامت الدولة الإسلامية كما أرادها النبي


قراءة تحليلية 
بقلمي الأديبة والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة.

أنّ الأعراب ما سلّموا لكتاب الله حق التسليم، ولا دانوا لشريعته على وجهها، إذ لم يرسخ في قلوبهم من الإيمان ما يحملهم على الطاعة والانقياد، فكيف يوصف بالإسلام من لم يستسلم لحكم الله ورسوله؟ بل المسلم الحقّ هو الذي خضع قلبه قبل جوارحه، واستوى ظاهره وباطنه على صراط العبودية.

ومحمّد الرسول إنما بعث ليصنع من مادة البشر رجالا تشتدّ عزائمهم بصلابة الأخلاق، ونساء يشرق في قلوبهن نور اليقين، وأجيالا متتابعة لا تنشأ إلا على صفاء العقيدة وطهر الرسالة. فجاء ليؤسّس حياة محمية بظلّ الدولة الإسلامية، ويغرس في تربة الوجود بذورا لا تثمر إلا إنسانا مسلما ذي قيم عالية، يقوم على جذر الإيمان ويترقّى بثمرات الأعمال الصالحة.

ويكون كذلك لما يستمدّ المرء روحه من القرآن الكريم والسنّة النبوية، فإنّ القرآن كلام الله، والكلام عند التحقيق هو الإذن الإلهي بالحياة؛ كما قال الإله للمسيح عليه السلام حين نفخ في الطين فصار كائنا حيّا بإذن ربه، كذلك جاء محمد النبي بشريعة هي النور الإلهي الذي يحيي القلوب، ويبعث فيها العلم والهدى، فيستنير به الناس في معاشهم؛ في السياسة، وفي الاقتصاد والقضاء، وفي العدد والعدة، وفي الأدب والفكر .

فإذا اجتمع نور الوحي مع سلطان الإيمان، نبتت القيم في النفوس نباتا حسنا، وقامت على دعائم راسخة كالأطواد. أمّا إذا غاب ذلك الأصل، فلا وزن لأمة ولو كثر عددها، إذ العبرة بالمعنى لا بالصورة، وبالثبات لا بالكثرة.

وكان محمد الرسول في أمّته كالأب الراعي، يهيّئ لها أسباب الراحة ومقومات القوة، فما نهضت الأمة إلا بما أمدّها الله من أساس، ثم بما حملته من عمل. غير أنّ الفارق بيّن، بين من يصاغ على ملء الإيمان، وبين من يتشكّل صورة خاوية لا لبّ فيها.

فجاءت رسالته إحياء للروح؛ والروح هي الوصل بين العبد وربه، وهي مناط الصلة بينه وبين الناس. فإذا استقامت الروح على الإيمان انتظمت شؤون النفس، واندرأت عنها غوائل الشيطان وظلمات الهوى، وإن انحرفت أو تشتتت، انفتحت أبواب العلل والداء. فجعل محمد النبي نظام الروح هو الأصل، فإذا استقامت الروح استقامت معها النفس، كما قال الحق في مريم الصديقة، وأنبتناها نباتا حسنا.

فكان غرضه أن ينبت من أمّته أجيالا يكون نباتها حسنا، يخرج جميعهم متوجّهون إلى الله، ظاهرا وباطنا، جوارح ونيّات، عبادة وخشوعا. وهنالك يصاغ المسلم الحقّ، الموقن بقوله تعالى، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.

أما الإنسان الأناني إن أعرض عن الله، فلا يجد إلا نفسه، فيصير أسير الهوى والمصلحة، يزن الأمور بميزان النفع العاجل، ويغدو ساعيا وراء اللذة والشهوة. وأما من توجّه إلى الله، فيجعل عمله وصلاته ورعايته للناس عبادة لله، فذلك هو الغرس النبوي، نبتة صافية تحمل عبق الإخلاص.

وأنت ترى اليوم في الناس من يلقي عليك تحية لسانه بالسلام وقلبه مشغول بطلب المصلحة، أو من يتّخذ التعدّد في النساء ذريعة لإشباع شهوة وليس لإقامة سنّة أو إعفاف نفس، فمثل هذا إنما هو صورة من دون حقيقة، وقالب بلا محتوى، وشتّان بين من أنبته محمد لله نباتا حسنا، وبين من رماه الهوى على صعيد العذاب.

وأنّ محمّدا لو اتّبعت أمّته شريعته ومنهاجه على وجههما، لهيّأ في كل فرد منهم مسلما صادقا في أقواله وأفعاله، مستقيمًا في عمله. ذلك على مستوى الفرد. وأمّا على مستوى الجماعة، فإنّ غرضه أن يخرج من بين الناس أمّة متشابكة الأيدي، متماسكة البنيان، كالجسد الواحد تحييهم روح واحدة. وقد نطق الوحي بتزكيتها فقال، كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس.

 تلك الأمّة لو قامت على ما أراد نبيّها، لكانت أمة طاهرة نقية، رجالها ونساؤها عفيفون، يقومون الليل ويشهدون الفجر، ويملأون المساجد في الجمعة والجماعات، فلا زنا فيهم، ولا خيانة، ولا سرقة، ولا خراب. ألسنتهم على التسبيح، وقلوبهم على المحبة، وأعمالهم على الصلاح.

هي أمّة تغرس الشجر في كل أرض، وتشيّد العمران في كل موضع، تحفظ أبناءها كما يحفظ الوعاء ما فيه، وتعلّمهم أحسن التعليم. رجالها فرسان في الميدان، ونساؤها كاملات في الفضيلة، عالمات متعلّمات، ينهضن بالأجيال ويشاركن في بناء الحضارة. مجتمع قارئ، أمّة تنطق بلسان واحد، تعرف العلم كما تعرف السيف، فلا يطغى فيها الجهل، ولا يستذلّ فيها العقل.

وإذا دعا داع إلى الجهاد في سبيل الله، وجدتم رجالها ونساءها على أُهبة الاستعداد، قد أعدوا العدة والرهبة، وهم يلبّون النداء بصوت واحد، كأن الأرض تهتزّ تحت أقدامهم، وقد صدق فيهم قوله تعالى، وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رّباط الخيل ترهبون به عدوّ اللّه وعدوّكم.

وأنّه إذا نودي بالنفير في دولة محمد الرسول لنجدة مظلوم خرج أول الأمة وآخرها، صغيرها وكبيرها جهادا، لإعلاء كلمة الحق ورفع الظلم، وردّ المعتدي، وإقامة الصلح بين الناس. غير أنّ سيفها لا يشهر قبل أن تمتد يدها داعية إلى السلم، كما قال تعالى، فإن جنحوا للسّلم فاجنح لها. فإن أبت عدوّتها إلا البغي، كان قتالها قتالا لا رجعة فيه إمّا نصر مؤزّر، أو شهادة في سبيل الله. فقتالهم ليس للغنيمة أو للعدوان، بل في جوهرها إقامة الحقّ وإزهاق الباطل، وتثبيت دعائم العدل في الأرض. ودولتهم قائمة ببيت مال لا يترك جائعا ولا يهمل غريبا، يفيض خيره على المسلمين وغير المسلمين، على الضيف كما على المقيم. والكرم شعارها، فلا يرى فيها فقير يستجدي، ولا مهان يهان، إذ العطاء فيها حقّ لا منّة، وعدل لا تفضّل.

وهي دولة تغدق بالعلم كما تغدق بالرزق، وتفتح خزائن معارفها ومكتباتها لكل وارد إليها، فليست معراجها إلى الحضارة مبنيا على السيف وحده، بل تكون على القلم كذلك، إذ بالعلم يزكو العمران، وبالقلم يحفظ الدين، وبالفكر تشيّد الحضارة.

فإذا أقيمت شريعة الله في الدولة المحمدية، أقيمت الحدود كما أنزلها الوحي، فلا فاحشة ولا فجور ولا لواط. فتركهم للمعاصي لا يعدّ خوفا من العقوبة، ولكن لأن مجتمعهم كفل حاجاتهم، وأعان ضعفاءهم، فوفّر الزواج للعازب، والمعاش للأسرة، والعمل للعامل، والكرامة للفقير. حتى إذا جاء غريب يطلب مأوى أو رزقا، وجد الأمن والأمان، وعاش في ظلّ دولة لا تترك أحدا يضيع.
فلا سجون مكتظة بالمجرمين، ولا جرائم تفتك بالمجتمع، بل أمة تعيش في قوة وسلام؛ سلام مع من سالمها، وحرب على من حاربها.

فهذه هي أمة محمد ﷺ كما أرادها نبيها… فهل أنتم اليوم على خطاها، أم أنكم تُهتم عن الصراط المستقيم ؟

أمّة محمد الرسول لو قامت كما أرادها نبيها، أمة يتكافأ فيها الجميع، لا يطغى فيها غنيّ بماله، ولا يهان فقير بفقره، بل الحاكم كالمحكوم، والسيد كالعبد، يستوون جميعا في مرتبة الكرامة الإنسانية. دولتهم شعارها السماحة، تغمر رعاياها بالمغفرة، وتحفظ حقوق جيرانها، فلا تخذلهم عند الحاجة، ولا تبخل عليهم عند النقص في المؤونة أو المرض أو الضعف في الاقتصاد أو العجز في العسكر، بل تمدّ يدها بالعون وتقاسمهم عند الضيق.

دولة محمد النبي كما أرادها، دولة ترعى رعاياها، وتحتضن ضعفاءها، وتؤوي محتاجيها. وقد وقع مثل ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز، حيث فاض المال و أغدقت الأمة بخيراتها حتى لم يترك فيها محتاج واحد. وكان المال فيها متداولا بين الناس، لا يكنز في خزائن ولا يمسك بخلا، بل يقسم بالعدل، إذ البخل مذموم في شريعة محمد، والإنفاق قربة إلى الله. وبيت مال المسلمين قائم يغني الفقير ويغني المتعفّف، حتى لا ترى فيها متسوّلا على قارعة الطريق. فكانت أمة محمدا لو قدّر لها أن تقوم كما شاء لها نبيّها، المثال الأعلى للعدل بين الأمم، والقدوة السامية في نظام العمران والسياحة.

وإنّ الدولة الاسلامية المحمدية قامت على سنن المساواة، واستقرّت قواعدها في نفوس الرعيّة، ثم استوت أمورها واطمأنّت قلوب أهلها، القسط فيها هو السقف الممدود على الجميع؛ فلا إكراه في الدين، إذ الدين قناعة في الضمير لا سلطان للسيف عليها، ولا اعتداء بين الناس، فإنّ الشرع قد سدّ ذرائع الظلم، وجعل القاعدة ألا يضرّ امرؤ غيره ولا يتضرّر به فقال، لا ضرر ولا ضرار. ومن ثمّ عمّ الأمن في أرجاءها كظلّ وارف من الرحمة، واطمأنّ الناس في معاشهم، يتبادلون الثقة كما يتبادلون السّلام.

والصنّاع والحرفيون في الدولة الاسلامية يتقنون الصنعة كما أمر الشرع، لا غشّ في صناعة، ولا تدليس في سوق، ولا خداع في بناء أو نسيج، بل كل شيء يجري على سمت الإتقان، إذّ ذاك هو الذي يحبه الله من عباده. والمال فيها متداول بين الأيدي، لا يحتكر في أيدي قلة تطغى به، ولا يكبس في خزائن معطّلة، بل يسري في العروق كما يسري الدم في الجسد، تسخيرا للخير وقياما بمصالح الناس. فساوى العدل بين الكبير والصغير، والغني والفقير، وصار الناس سواء في الحقوق والواجبات.

ومن دخل دولة محمد الرسول مسلما كان أولى من أهل المِلل الأخرى، وجد الأمن مقرّرا له، والكرامة مصونة، إذ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. فترى توافد الناس إليها من كل فجّ، حتى صارت قبلة للزائرين والسائحين، يطلبون من عمرانها السكينة، ومن نظامها الأمل، ومن اقتصادها الاستقرار، ومن روحها ما لا يجدونه في غيرها من الدول.

وهذا الشأن قد وقع في دولة الأندلس لمّا اعتلى عرشها عبد الرحمن الناصر ومن بعده الحكم المستنصر، فحكما بالشريعة وأقاما العدل بين الرعية؛ فإذا بالأندلس تتحول جنّة على وجه الأرض، تزيّنت أنهارها وحدائقها، وزخرفت عمارتها، وانتشر فيها العلم والفن، فغدت قرطبة يومئذ منارة للمعرفة، وموئلا للحضارة، يؤمّها طلّاب العلم من المشرق والمغرب.

ولقد كان سرّ إبداع المسلم في الدولة الاسلامية أنّه يعيش في طمأنينة نفسية لا تشوبها شوائب الخوف ولا أدران الحاجة، فلا صخب للتحطيم، ولا أثر للخيانة، وكيف يخون امرؤ دولة وفّرت له كل أسباب الحياة الكريمة وأمّنته على دنياه وآخرته؟

وفي دولة محمد النبي، يتقدّم العلماء والقرّاء والأطباء وأهل الفكر مكان الريادة، إذ جعلت القيادة للأكفأ من العقول، لا للأهواء والشهوات. فتجد الحاكم رحيما بالرعية، متواضعا بينهم، يقرّبهم منه ولا يتعالى عليهم، يغدق من علمه وفضله كما يغدق الغيث على الأرض. فكان الرأس موجِّها للجسد، والعقل قائدا للهوى، والمجالس عامرة بالذكر، والملائكة تظلّها، والبركات تفيض منها، والأخوّة بين العائلات والمحبة تملأ صدور أهلها.

فلا انتحار هناك، إذ لا يأس مع الإيمان، ولا خمر ولا معازف تفسد النفوس، ولا فسق يخرق ستر الطهر. ومن دخل ساحة القضاء، وجد الحق ناطقا على ألسنة القضاة، فلا يجرؤ ظالم أن يغتصب حقا، لأنه يعلم أنّ حكم الشريعة قاطع لا محاباة فيه، فتنكسر شوكته قبل أن تمتد يده، ويوفَّ كل ذي حق حقّه بالميزان الذي لا يميل. 
فيزول الظلم من بين الناس، فلا يطغى كبير على صغير، ولا يهان شيخ في كبره، ولا يترك فقير في عوزه، إذ جعل الشرع لكل فرد حقّا في العمل والسكن، وكفل بيت مال المسلمين كل محتاج، فانتفى بذلك الفقر والتسوّل من الطرقات، واستغنى كل امرئ بما فرض له من حقّ معلوم.

فإذا نظرتم إلى هذه الحقائق بعين البصيرة، انبعث السؤال في أنفسكم أأنتم مسلمون حقّا؟ ولو أنّكم حكمتم بما أنزل الله في كتابه، وأقمتم شريعته في أنفسكم ومجتمعكم، لكنتم أنتم حقّا خير أمة أخرجت للناس، تشهد بفضلكم الأرض كما تشهد السماء.

ولو أنّ الدولة المحمدية قد قامت، ثم جاءها مستنصر من أرض صديقة مجاورة، لارتجّت منابرها بنداء النفير، وتردّدت أصداء التكبير في المساجد والسهول والجبال، حتى ترى الناس يفيضون من بيوتهم وزقاقهم كالسيل العرم، لا يمنعهم فقر ولا مرض، ولا يثنيهم جوع ولا خصاصة.

ولكان الرجل يحمل سلاحه على كتفه، والمرأة تودّع زوجها بدمعة ورضى، والأسلحة تتلألأ في أيديهم كأنها شهب ساطعة، يندفعون كالإعصار وقد أسندهم النور الإلهي بعينه، فلا يعرفون خوفا ولا ارتعادا، بل يذودون عن أخت لهم في الدين، ويستطيبون الموت ليحيا إلى جوارهم جدار دولة مسلمة.

ومن بعيد تسمع صوت الطائرات وضرب قاذفاتها على الأرض، فيختلط بوقع التكبير وصليل الرصاص، والآيات تهمس في قلوبهم من فوق سبع سماوات، فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه.

فمن ذا الذي يطيق مواجهة دولة لو قدّر لها أن تقوم على نهج محمد الرسول؟

 بل لظنّ الناس أن الجنّة قد أزلفت، وأن الملائكة تنزلت تمشي في الأسواق والطرقات، إذ لا خصام في البيع ولا غشّ في الميزان، ولا تضارب في الأثمان، لأنّ كل شيء موزون بميزان العدل الذي سنّه النبي من عند ربه، فيجعل النظام جاريا في السوق كما هو جار في البيت.

وفي ظلّ الدولة الاسلامية لا تنتشر الأوبئة، ولا تستفحل الأمراض المستعصية، إذ هي في حقيقتها آثار غضب إلهيّ يصيب به أقواما انحرفوا عن سواء السبيل. أمّا الرعية في أمة محمد فكانت لتظلّ محفوظة برحمة الله، مصونة من كيد الشياطين ووخزهم، حتى يخال المرء أنه يعيش في دنيا غير هذه الدنيا، دنيا تغشاها السكينة ويظلّلها الطهر.

تراهم أصحّاء الأجساد، نقيّي الحياة، لا يسمع بينهم أثر لسحر أو قتل أو موبقات، إذ المجتمع الطاهر لا يتّسع للرجس، ولا تنحدر أركانه إلى مهاوي الفساد. بل كانت أمّة محمد النبي لتكون أمّة مصفّاة من الأدناس، منصورة بإمامها، قائمة بين الأمم مقام القلب من الجسد.

تخيّل أمة بأسرها تصغي، لا صوت يعلو على صوت الآذان، ولا انشغال يقدّم على الصلاة، فهي التي تعيد للإنسان توازنه كل يوم.

في هذه الدولة، الحقيقة كلمة تتجاوز الألسنة، هي القوة الخفية التي تشدّ الحياة كلها نحو العلو. القرآن يتلى للبركة والفهم معا، ويترجم إلى واقع حيّ، فآية في البيع تهذّب السوق، آية في الصبر تعطي الجندي عزيمته، آية في الرحمة تغرس في قلب الأم عطفها، وآية في التوبة تعيد الخاطئ إلى نقائه. لا فرق بين تاجر ومزارع، الكلّ يسبّح بحمد ربه وهو يعمل. لا وجود لسكران في الطرقات، ولا خائن في المعاملات، لأن الرقابة الداخلية صارت أقوى من أي شرطة خارجية.

الدولة التي بشّر بها محمد ﷺ، لا حاجة فيها إلى آلاف المواعظ لردع الناس، فالقلوب امتلأت بذكر الله، وصار كل فرد "رقيب نفسه". إن الله في وعيهم أقرب إليهم من أي سلطان، وأشد مهابة من أي عقوبة، فيعيشون في صفاء روحي يجعل الدنيا جنّة قبل جنّة الآخرة.

في الدولة المحمدية، لا يكون الحكم عرشا يتوارث كالميراث، ولا تاجا يرصّع بالذهب، بل أمانة ثقيلة تخيف القلوب أكثر مما تغريها. الحاكم ليس "سيّدا" على الناس، بل أول خادم لهم؛ يأكل مما يأكلون، ويلبس مما يلبسون، ويمشي بينهم في الأسواق، لا يحرسه جند ولا تتقدّمه مواكب.

السياسة في الدولة الاسلامية تقوم على الشفافية والشورى ولا تبن على المكر ولا على المناورة. فالأمة تجتمع لتقول كلمتها، والقرار لا يخرج إلا بعد مشاورة أهل العلم والخبرة. لا يكون فيهم من يقصي الآخر لأجل الهوى، ولا من يزيّف الحقائق بلسان مزيّن. كل فرد من الرعية يعلم أنّ له صوتا مسموعا، وأنّ النصيحة للحاكم ليست خيانة، بل في حقيقتها عبادة.
والقانون لا يغيّره هوى سلطان ولا ضغط جماعة. فإذا أخطأ الحاكم، حوسب كما يحاسب أي فرد آخر، وإذا جار قاض، عزل في الحال.
إنها دولة تقدّس الحق، لا الأشخاص. حاكمها لا ينام مطمئنا إذا جاع واحد من رعيته، ولا يبتسم إن بكى مظلوم في أطراف البلاد، فالحكم ليس امتيازا وإنما تكليف ثقيل يسأل عنه أمام الله.
فسياسة الدولة ليست لعبة قذرة كما نراها في حضارات البشر، بل وسيلة لإيصال الحقوق إلى أهلها، وحماية المستضعفين من ظلم المتجبّرين.

في الدولة المحمدية المال هناك ليس صنما يعبد، ولا وسيلة للتجبّر والاستعلاء، بل أمانة في يد صاحبه يسأل عنها كما يسأل عن صلاته وصيامه. الزكاة تجري مجرى الدماء في العروق تؤخذ بحقها من كل غنيّ، وتردّ في وقتها لكل فقير، حتى يصبح السؤال عن الحاجة أمرا نادرا. ولم تكن الصدقات هبات عابرة لطلب السمعة، بل شريان حياة يربط المجتمع كله بخيط من الرحمة.

في الدولة الإسلامية الأسواق عامرة، لكن بلا ربا ولا احتكار. التاجر الأمين يعامل كالشهيد في الأجر، والمطفّف يفضح ويحاسب. فلا ترى عيونا قلقة تخشى الخديعة، لأن الكلمة الصادقة كانت ضمانة البيع، والحياء من الله كان صكّ الأمانة.

العمل ليس عبودية لرغبات الأغنياء، وإنما هي عبادة، والسعي على العيال جهاد. لا بطالة مهينة، ولا تكاسل مذلّ، لأن الكل يعلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى.

ثم إذا نظرت، لرأيت الناس يتنعّمون بالحدّ الأدنى من الفقر، حتى كأن الغنى أصبح مشاعا في المجتمع. فالغني لا يطغى بماله، والفقير لا يحقد بقلبه، لأن الموازين قد استقامت، وصارت الثروة وسيلة للعمران بعيدة كل البعد عن الاستغلال.

إنه اقتصاد تحكمه الأمانة، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وتظلّله الحكمة النبوية "من كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له".

في الدولة المحمدية الأسرة هناك نسيج واحد، ليست مجرّد عقد زواج، بل محراب صغير تتلى فيه آيات المودة، ويقام فيه صرح السكينة. الزوج لا يستبدّ بزوجته، ولا المرأة تنازع زوجها، بل يتكاملان كجناحي طائر، يحلّق الود بهما في سماء الطهر. الأطفال يربّون على الإيمان قبل الكلام، وعلى الأخلاق قبل العلوم، فيشبّون وهم يشعرون أن المجتمع كله آباء لهم وأمهات.

لا مكان هناك لعقوق الوالدين، ولا لقطيعة الأرحام، لأن البرّ صار قانونا داخليا لا يحتاج إلى محاكم. والجار لا يبيت شبعانا إذا جاره جائع، حتى السؤال عن الحاجة عندهم بعد عيبا، لأن الأبواب تطرق قبل أن يطرق باب الفقير بالإلحاف.

في الدولة المحمدية، الأيتام يربّون في حجر المجتمع كله، والمرضى لا يتركون فريسة الألم وحدهم، بل يلتف حولهم الناس كما يلتف الحرس حول الملك. أما المرأة، فهي ليست حبيسة جدران ولا سلعة في الأسواق، بل شقيقة الرجل في التكليف والكرامة. تشارك في بناء الأمة بعقلها وعملها، ويصان حياؤها وحقوقها فلا تبتذل ولا تهمّش.

كل فرد من المجتمع يعرف أن مكانته لا تقاس بماله ولا بنسبه، بل بتقواه وصدقه. فلا كبرياء طبقي ولا إذلال للفقراء. فقد صار الغني والفقير، العربي والأعجمي، الرجل والمرأة… كأنهم أسنان المشط، لا فضل بينهم إلا بما يحملون في قلوبهم من نور.

إنه مجتمع إذا نظرت إليه رأيت قوله ﷺ حيًّا "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى."

في الدولة المحمدية العلم لا يعدّ ترفا للنخبة، ولا حكرا على المترفين، بل شعاعا يضيء طريق الصبي في الكتاتيب والشيخ في المسجد، فيتحوّل التاجر في السوق إلى فارس في الميدان.
فالعلم عبادة، والجهل عيب أخلاقي قبل أن يكون قصورا معرفيا. لا أحد يستحي أن يقول "لا أعلم"، لأن قيمة الإنسان ليست في ادّعاء المعرفة، بل في صدق طلبها.

حيث القرآن هناك كتاب تفكّر ومنهج حياة، يفتح أبواب السماء، ويغوص بالمرء في أعماق البحر ليرى آيات الله، ويقوده إلى نفسه ليدرك أسرار الخلق. لا يتغنّى بآياته أو يعلّق على الجدران أو يركن في الرفوف، وأما السنّة فهي خريطة عملية توضّح للإنسان كيف يحوّل القيم إلى حياة وليست حكايات تاريخية.
المساجد هناك جامعات مفتوحة قبل أن تكون أماكن للصلاة، يجتمع فيها الفقيه والطبيب والمهندس والفلكي، فينهل الناس من بحرٍ واحد. والمعلّم ليس موظفًا، وإنما وريث الأنبياء، يحرس العقول من الانحراف كما يحرس الفارس الحدود من الغزاة.

وفي ظل هذه الحقائق، تتكامل العلوم الدينية والدنيوية ولا تتصارع، فالفقه ينمي الاقتصاد، والطب يستمد من الرحمة، والفلك يفتح آفاقا للتأمّل في ملكوت الله. لا يعرفون ازدواجية "العقل ضد النقل"، لأن الوحي يحرّض على التفكير، والعقل يجد في الوحي بصيرته، والمفكرون فيها مصابيح دائمة الإضاءة. لا يحتقر سؤال طفل، ولا يغلقون باب اجتهاد، لأنهم أدركوا أن كل معرفة صادقة هي جزء من نور الله المبثوث في الكون.

في الدولة الإسلامية، الكتب أوراق حية تخزّن في المكتبات كجسور تربط الأجيال، وتحكي قصة الإنسان في رحلته نحو الكمال. والعلم يزيد صاحبه خشية لله، ولا يورثه الغرور تصديقا للآية: إنما يخشى الله من عباده العلماء.

في الدولة المحمدية، الجند يقاتلون ليكون الحق أعزّ من الباطل، والعدل أرفع من الظلم.

الجنود هناك لا يحسبون أرقاما في السجلات، إنما قلب واحد ينبض؛ كلّ منهم يرى نفسه حارسا للأمة جمعاء، لا يحصر في جغرافيا ضيّقة. قائدهم يتقدّمهم بقدوة الزهد والرحمة، وبعيدا عن سلطة الجبروت فإذا أمر أطاعوا، لأنهم يدركون أن أمره من أمر الله ورسوله.

ثم إن الأمن في الداخل مبنيّ على القانون والشفافية، خاليا من الخوف أو قمع الأصوات، فلا سجون مظلمة يحشر فيها الأبرياء، ولا محاكم مسيّسة تُفرّق بين الناس. 
الحدود هناك تُحمى كما تُحمى القلوب من الشهوات. الجيش لا يعدّ وسيلة لإرهاب الرعية والجيران، وإنما سياجا يردع المعتدي ويطمئن الضعفاء. والجهاد في سبيل الله يفهم على أنه أسمى صور التضحية، لا قتل ودمار، لما يقدّم الإنسان حياته ليحيا غيره بكرامة. 
فإذا دخلوا حربا، دخلوها بميزان العقل والدين فلا يقتل طفل، ولا تهدم دار، وصوامع ولا يجاع شعب، بل كل شيء محسوب بميزان السماء، حتى لا يتحوّل القتال إلى طغيان لأن القوة لا تنحاز إلا إلى الحق.

إن الدولة المحمدية منارة حضارية للإنسانية جمعاء، قوة رسالتها تتجاوز حدود الإقليم. تُكتب سيرتها كرسالة سلام، لا كإمبراطورية استعمارية أو سلطة متغطرسة.

الحضارة هناك تُقاس بارتفاع القيم وسموّ الأخلاق، لا بعلوّ القصور ولا بتراكم الذهب.

أما علاقتها بسائر الأمم، فهي علاقة رحمة وشهادة، وإن بسط الآخرون السيف، ووجهوه بعدل وقوة تردع الظلم وتحمي الكرامة بعيدا عن الهيمنة. غير المسلمين يعيشون فيها بكرامة تامة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلا يُهان ذمي ولا يُستذل مستضعف. 

والحضارة فيعا، متفتحة على العالم تستقبل الحكمة حيث وُجدت، وتُضيف إليها روحًا إيمانية تجعلها أسمى غير منغلقة على ذاتها. فالفكر اليوناني لا يرفض، والطب الفارسي لا يحتقر، و الفلك الهندي لا يقصى، كلها تهذّب وتصاغ من جديد في بوتقة الوحدة.

في الدولة المحمدية المسلمون يريدون أن يغلبوا العالم بالحكمة والحق، أن يثبتوا أن الرحمة أصل في الدين، وأن "محمدا رحمة للعالمين" حقيقة متجلية في كل تفاصيل الحياة، لا شعارا.

إن الحضارة المحمدية إن قامت على القرآن والسنة حرفا وروحا، لكانت جسرا وشجرة طيبة بين الأرض والسماء تعطي أكلها كل حين و تعطي الدنيا معناها الصحيح، وتفتح للآخرة بابها. 
حضارة لا تذلّ الإنسان باسم المادة، ولا تسحقه باسم الروح، وإنما تعيده إلى مقامه الحقيقي خليفة لله في الأرض، يعمّرها بالعدل والجمال، ويضيئها بالعلم والإيمان.

تعليقات