حين يكون الاختبار طريقًا إلى نور الله، لا يعود الألم مجرد وجع، بل يصبح نداءً خفيًا، دعوةً للرجوع، وإشارةً إلى أن القلب لم يُخلق ليستقر في دار الزوال. فلو أن الله أحاطك بمن تحب، وجنّب عنك من يؤذيك، ومهّد لك دروب السلامة، وأرخى عليك ثوب الأمن، وأسدل ستائر الراحة، لكانت الدنيا جنةً مصغّرة، دار قرار لا اختبار، وملاذًا لا معبرًا. لكن، هل خُلقت الدنيا لهذا؟ وهل أراد الله لها أن تكون مستقَرًا؟ أم أنها جُعلت ميدانًا للتمحيص، وساحةً للابتلاء، ومسرحًا تتقاطع فيه مشاهد النور والظلمة، الفرح والحزن، العطاء والمنع؟
إن الله لم يعد عباده بدنيا خالية من الألم، بل قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، فهو ابتلاء لا يُقصَد به الإيذاء، بل التربية، والتمحيص، والتقريب. فالله لا يبتلي عبده ليعذبه، بل ليطهّره، ويُظهر صدقه، ويُعلّمه كيف يحمده في المنع كما يحمده في العطاء. الابتلاء ليس عقوبة، بل هو توقيع إلهي على أنك ما زلت في دائرة العناية. أن الله يُربّيك، يُهذّبك، يُنقّيك، ويُعلّمك كيف ترى النور في قلب الظلمة، وكيف تقول "الحمد لله" حين لا ترى سببًا ظاهرًا للحمد، فتُصبح أنت السبب، ويُصبح قلبك شاهدًا على الإيمان.
حين تنعم النفس بالطمأنينة، وتُغدق عليها النعم، يسهل عليها أن تقول "الحمد لله". لكن حين تُنتزع منها أسباب الراحة، وتُحاط بما تكره، ويضيق الأفق، ويُختبر القلب، فإن قول "الحمد لله" يصبح فعلًا بطوليًا، وموقفًا إيمانيًا عظيمًا. وقد قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فما تكرهه النفس قد يكون عين الخير، وما تحبه قد يكون بابًا للشر، والله وحده يعلم الحكمة من وراء كل قدر.
حين يبتليك الله بما تكره، فهو لا يعاقبك، بل يكشف لك عنك. يُريك مدى صبرك، وصدقك، وعمق إيمانك. يُريك هل تحمده حين يُعطيك فقط، أم أنك تحمده حين يمنعك أيضًا؟ هل ترى في المنع وجهًا من وجوه الرحمة؟ هل تؤمن أن الله لا يختار لعبده إلا ما هو خير، حتى لو بدا مؤلمًا؟ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، فكل ما يصيبك مكتوب، مقدّر، محسوب، لا عبث فيه ولا صدفة.
أن تقول "الحمد لله" حين يختار الله لك ما لا تحب، هو ذروة التسليم، وقمة الإيمان. هو أن تثق أن الله يرى ما لا ترى، ويعلم ما لا تعلم، ويُدبّر لك ما لو علمت تفاصيله لسجدت له شكرًا. وقد قال تعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ كَرْهُكُمْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، ففي المكروه خير كثير، وفي المنع لطف خفي، وفي الألم حكمة لا تُدرك إلا بعد حين. وما أجمل أن يكون الحمد هو ردّك على كل قدر، أن تقول في المنع كما في العطاء: "الحمد لله"، لا لأنك فهمت، بل لأنك وثقت. لا لأنك رأيت الحكمة، بل لأنك آمنت بوجودها، ولو كانت مستترة خلف ستار الغيب.
الحمد لله في كل حال، في العطاء والمنع، في الفرح والحزن، في اللقاء والفقد. الحمد لله الذي يختار لنا، لا الذي يُسلّمنا لما نختار. الحمد لله الذي يُربينا بالابتلاء، ويُطهّرنا بالألم، ويُقرّبنا إليه حين نُحسن الظن به في كل قدر. فليكن قلبك مرآة لهذا النور، وليكن شعارك كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، هو الله، في كل حال، في كل اختيار، في كل لحظة من لحظات العمر .
قلم الأستاذة خديجة آلاء شريف كاتبة وأديبة
الجزائر
تعليقات
إرسال تعليق