القائمة الرئيسية

الصفحات

"كيف توصد أبواب الأمراض المستعصية؟"



بقلمي الأديبة والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة 


 إنّ المرض في هذا الزمان قد تبدّل عن صورته المعهودة، فما عاد مقتصرا على ضعف الجسد وانحلال القوى أمام الأوبئة وثقل الأعمار، بل صار يتسرّب إلى الأرواح، ويستوطن في أعماق النفوس، ثم يتراءى أثره على الأبدان. ترى المريض يكثر الشكوى، ويطرق أبواب الأطباء والممارسين، ويجري الفحوصات مرارًا، فإذا النتيجة في ظاهرها سلامة، والجسد بريء من العلّة، ومع ذلك يبقى الألم مقيما، كضيفٍ ثقيل يأبى الرحيل. فأيّ داء هذا الذي لا تدركه آلة، ولا تُثبته علامة، ولا يراه الطبيب بعينه؟


وعند الحيرة يلجأ الناس إلى الغيب، فيقول أحدهم "لقد أصابتني عين"، ويزعم آخر "أصبت بسحر"، وثالث يصرخ "إنما هو مسّ من الجنّ". فيتنقّل المبتلى من وهم إلى وهم، حتى يستقرّ في صدره شعور بالضعف، وإقرار بالعجز، وكأنّ الأقدار قد خطّت عليه طريق الفشل.


إنّ للنفس البشرية من الضغوط والهموم ما يكفي لتوليد علل وأوجاع لا دواء لها سوى الراحة والتسليم وإعادة التوازن. غير أنّ الناس يأنسون بتعليق أمراضهم على شماعة الغيب، فيهربون من مواجهة ذواتهم.


وأشدّ ما يخشى أن يرمى بعض الأقارب أو الجيران بالبلاء بغير بيّنة، فيُقال "فلان هو السبب"، فتتقطّع بذلك الأرحام، وتزرع الضغائن، ويشاع الفساد في العائلة والمجتمع.


ثم يظهر في الساحة من يسمّي نفسه "الراقي"، و ما له قدم في علم الطب ولا سهم في علوم النفوس، إنما حفظ شيئا من الآيات، فاتخذها تجارة، وجلس مجلس الطبيب الحاذق، يزخرف القول للناس، حتى إذا اجتمعوا عنده قال للمريض "إنّ الشيطان سيخاطبني بلسانك الآن". فيخرج صوت منكسر، فيحسبونه لسان الجن، وما هو في كثير من الأحوال إلا أثر الإيحاء والاضطراب النفسي، أو حيلة يتقنها بعض المدّعين ممن اتخذوا الرقية سلعة تباع وتشترى.


واعلم أنّ الرقية الشرعية في أصلها ذكر ودعاءٌ وتلاوة بصدقٍ وخشوع، يرجى بها شفاء الروح والجسد، ولا تكون سبيلا لابتزازٍ أو دعوى باطلة. فمن جعلها حرفة يتكسّب بها، أو وسيلة لتضليل الناس، فقد خالف مقصودها، وابتدع في الدين ما ليس منه.


إنّ المرض الظاهر يدرك بالحواس، والمرض الباطن يخفى على الأبصار، وهو الذي يسكن أعماق النفس، ويشاهد أثره على الجسد من غير أن تدرك علّته الآلات أو تفسّره التجارب. وهذا هو المرض الروحاني الذي يتولّد من فساد الاعتقاد، وتراكم الذنوب، واضطراب القوى العاقلة والنفسية.


ومن تأمّل في أحوال الناس في هذا العصر، وجد فريقا قد سلّموا أمراضهم إلى الغيب تسليم الجاهل، وجعلوا من الوهم دواء، ومن الدجّالين أطباء. والحق أنّ في داخل كل نفس قوة فطرية للشفاء، وفي كل عقل قدرة على التمييز بين الصادق والدجّال، وفي كل قلب يقينا بأنّ الله لم يجعل بين عبده وربّه وسيطا يتاجر بالآيات.


وقد خرج في الناس قوم يسمّون بالرقاة الشرعيين، تزيّوا بزيّ الصالحين، وظهروا من هيئات الوعّاظ ما يخيل إلى العامّة أنّ البركة تحيط بهم. فظنّ بهم الجهّال أنّ الكرامات والخوارق تجري على أيديهم كما جرت على يد الأنبياء والمرسلين. وهذا باطل، إذ لم يعرف في الشرع ولا في العقل أن المعجزة تجري إلا على يد ولسان نبي، ولا أن الكرامة تثبت إلا لوليّ صادق عفيف طاهر السريرة. أما هؤلاء فغالب أمرهم حبّ المال، والتسلّط على المستضعفين، والركون إلى الهوى.


وإذا عجزت رقاهم عن شفاء المريض، لجأ بعض الناس إلى السحر، يظنّ أنّه علاج لما استعصى. وليس السحر إلا مرضا أعظم من المرض، ونجسا يزيد القلب ظلمة. فيه يلطّخ السحرة كتاب الله بالطلاسم المدنّسة، ويأمرون بما تستقبحه الفطرة من فجور وزنى محارم، ثم يبتسمون في وجه ضحاياهم قائلين " أنهم شيوخ مقتدرين". فيتحوّل الأمل في الشفاء إلى ذلّ ومهانة، وتنقلب النفس التواقة إلى النور أسيرة في ظلمات الشياطين.


وقد قال الله، في قلوبهِم مرض فزادهم اللّه مرضا. فالقلب إذا مرض صار أصل العلل، ومنه تسري الأسقام إلى الأعضاء كما يسري السمّ في العروق. وقال الحكماء "إذا فسد الأصل لم ينفع صلاح الفرع".


إنّ المرض الذي تتحيّر فيه الأطباء، وتضطرب عنده حيل الرقاة، إنما هو داء باطنيّ ناشئ من الذنوب المتراكمة عند التهاون بالصلوات، وهجر القرآن، وقطيعة الأرحام، وأذى الناس واغتيابهم، حتى تعلو دعوات المظلوم إلى السماء فتستجاب. ومن شحّ في الصدقات، ولسان لا ينفكّ عن السباب، ويد تخون في الميزان، وقلبٍ إعتاد على الفحش والزنى واللهو.


فإذا استولى هذا الداء على القلب انعكس أثره على الأعضاء كلّها، فصار الجسد مرآة صادقة لما حفر في الروح من خطايا، وصارت الأوجاع صورة مجسّدة للذنوب الغائرة.


فالمرض الوهمي إن هو إلا ثمرة معصية، وصدى ذنب، وعقوبة يترجمها الجسد في هيئة ألم متكرّر.


،؛، 

فالذنوب هي مادة المرض، والتوبة طبّه، والطاعة ترياقه. فمن صحّ قلبه صحّ بدنه، ومن سقِم قلبه سقِم كيانه كلّه. 

،؛،


إنّ النفوس المريضة ليست في حاجة إلى ساحر يموّه بالباطل، ولا إلى راق يتّخذ من كلام الله سُلّما إلى الدنيا. فإنّ الدواء الأقوم والأصفى هو الرجوع إلى أصل الداء وهو العبودية، وإصلاح ما فسد من الضغط والمعاملة بالمثل، وردّ الحقوق إلى أهلها، وإقامة الصلاة خالصة بلا رياء، والإحسان في معاملة الخلق، فإنّ هذه هي الأدوية الروحانية التي تزول بها غشاوة الوهم، وينكشف بها المرض الخفي.


فإن كان العارض عضويّا جسديّا، فدواؤه في الصدقة والإحسان إلى اليتامى والفقراء؛ إذ النفوس إذا طُهّرت بالإنفاق، انحلّت عنها عقد البلاء، وتهيّأت الأعضاء لقبول الشفاء. وإن كان الوهم هو المسيطر، وصار لسان المرء يردّد أنه مسحور، أنه معيون، أنه محسود، أنه ممسوس، فدواؤه الصلاة الخاشعة، فإنها لقاء مع الله، واستمداد من قدرته التي لا يُغلب بها شيء.

"إِنّ اللّه يدافع عن الّذين آمنوا"، "وما هم بِضَارّين به من أحد إلّا بإذن اللّه".

فالمؤمن الحق في كنف ربّه، محصّن باليقين، لا تناله سهام الوهم ولا أعمال السحرة.


أما من ركن إلى ساحر فقد سلّم نفسه إلى الشيطان، حتى صار قرينا له، لا ترفع له صلاة ولا يقبل له دعاء؛ لأنه قصد بابا أغلقه الله. وأما من آمن بأن الشيطان يتكلم بلسان المريض، فقد ابتلع الوهم؛ لأن الشيطان كذوب بطبعه، وإنما يلبّس على السامعين ليميل قلوبهم عن التوحيد إلى التعلق بغير الله.


ثم انظروا إلى من يجعل من القرآن تجارة، ينفخ في الماء، ويضع يده على جسد المريض، ويزعم أن كلام الله يخرج من فمه إلى يده ثم يسري في اللحم والعظم وينتقل إلى جسد المريض! أيّ برهان يثبت أنّ يد الآدمي صارت جسرا للوحي؟ أهو رسول ثان أو صاحب معجزة كعيسى ابن مريم؟ كلا، بل تلك كرامة خصّ بها المسيح، ولم يجعلها الله في غيره.


الرقية الشرعية في أصلها ليست إلا دعاء صادقا، يتطهّر فيه الداعي بالوضوء، ويتلو الآيات بخشوع، مستسلما لرحمة الله، دون وسائط ولا خرافات. أما النفخ في الأواني المملوءة بالماء هذا يدعى التعميد بالماء كما يفعل النصارى، فليس من شريعة الإسلام في شيء، إذ شريعتنا الطهارة بالوضوء والغسل، لا بالنفث والتمائم.

"وما تنزّلت به الشّياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون، إنّهم عن السّمع لمعزولون".

فإذا كان الشيطان معزولا عن سماع كلام الله، فكيف يزعم أن الشيطان خادم السحر ينطق عند سماعه القران؟! ذلك تناقض صريح مع منطق القرآن، وإنما هو فعل النفس المضطربة وتمثيل الخيال المريض.


ولو أنزل الله القرآن على جبل لخشع وتصدّع من هيبته، أفيعقل أن يمرّره راق عبر يده إلى جسد إنسان؟! ما هذا إلا دعوى باطلة، وتشبّه بجبريل الأمين الذي نزل بالوحي على قلب النبي ﷺ، لا على أيدي الرقاة المحدثين.


 بأي حق تجعلوا من كتاب الله مكسبا، فتأخذوا عليه مالا وهو كلام الله؟ كيف تنفخوا في الإناء والماء وتزعموا أن القرآن يسري فيه، وقد نهى محمد ﷺ عن النفخ في الأواني، وما جاء عنه أنه فعل ذلك؟ 

إلى الله يصعد الكلم الطيب، ولا ينزل إلى وعاء يملؤه الهواء والماء.


عيسى ابن مريم عليه السلام الذي مسح على الأكمه والأبرص فشفاهما بإذن الله؟ تلك كرامة لم تعط إلا له، ولم تُجر إلا على يديه، أما ما يشاع عن غيره ما هو إلا غرورا ووهما.


الرسول ﷺ كان يقرأ فيدعو، ويعلّم المريض أن يقرأ بنفسه المعوّذات ويمسح بيديه على جسده بنيّة صادقة، دون الحاجة له أن يستدعي شخصا آخر يضع يده عليه ويدّعي أنه يمرّر القرآن عبره. تلك طريقة لم تنقل عن محمدا، ولم ترد في سنته، بل سنته أن يكون العبد أقرب إلى ربّه بنفسه، فيقرأ ويدعو ويستعين بالله مباشرة.


نرجع إلى ما شاع اليوم من أساليب بعض الرقاة، ليس له أصل في سيرة النبيّ ﷺ ولا في سنّته المطهّرة. فلم يُنقل قط أنّه وضع يده على رأس المريض على هذا النحو، ولا أنّه مارس تلك الطقوس التي يتذرّعون بها. وكل ما يروى من أحاديث تحتجّ بها في هذا الباب، لا يخرج عن سياق خاص أو حال مخصوص، ولا يدلّ على تلك الممارسات المحدثة.

وقد جاء في الأثر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان رجلا مباركا، يفرّ الشيطان من طريقه، وأنّه كان إذا قرأ فاتحة الكتاب في نفسه باركه الله، فيُشفى المريض بدعائه ونيّته. 

لكن، أفأنتم عمر؟ أولئك رجال مُلهَمون مؤيّدون، أما أنتم أيها الناس فلا تكليف عليكم سوى الدعاء الصادق والتضرّع الخالص. فلا تتشبّهوا بالمسيح الحق عيسى عليه السلام، ولا تدّعوا ما لم يؤتكم الله.


أما ما ذاع من ضربٍ بالعصا، ورشّ بالماء، وجمع الناس في صراخ وضوضاء، فذلك من البدع المحدثة، لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة. وما روي عن عمر من بركة دعائه، فهو إلهام خاصّ ورجاحة إيمان، لا حيلة موروثة ولا صنعة مكتسبة.


فالرقية إذن علم وتربية، لا تجارة وابتزاز. وهي عبادة خالصة، لا وسيلة للتحرّش بالنساء ولا لتفريق الأسر. وما جرى اليوم على ألسنة الرقاة ليس شفاء بل مرض جديد يسمى مرض الوهم، ومرض التبعية، ومرض الجهل الذي يغلّف القلوب.


وأثبتت الدراسات أنّ كثيرا من الناس إذا عثروا على ورقة ملفوفة أو خيط معقود أو طلاسم مدفونة في مقبرة أو بيت مهجور، بادروا إلى إلقائها في الماء أو إحراقها بالنار، وظنّوا أنّهم بذلك قد أبطلوا مفعولها. وهذا خطأ من جهة العلم، وغلط من حيث العقل والشرع.


فإنّ حقيقة الطلسم ليست فيما تراه العين البشرية من خطوط ورموز، بل في العقد القائم بين الساحر والشيطان، فهو مادة من الخيمياء في عالم الحسّ، وأصل في عالم الخفاء. فلو أحرقت الصورة لم يُحرق الأصل، ولو دفنت النسخة لم يدفن جوهرها، لأنّها قائمة في عالم غير عالمكم، محفوظة عند خادم السحر، لا تنقضي بزوال أثرها الحسي. وإنما الذي يكشف سرّها ويمحو أصلها هو من أوتي علم سليمان عليه السلام، إذ سخّرت له الشياطين وانقادت له الأرواح، وما عداه فمجرّد ادّعاء وتلبيس على العوام.


غير أنّه منذ اكتمال التنزيل وانبلاج نور القرآن، بطلت أصول السحر وانهدّت دعائمه، فما بقي في أيدي الناس اليوم إلا أوهاما يخيّلها لهم الجهل، وخطأً في المعرفة يصرّون عليه. فالعاقل لا يثبت لغير الله سلطانا، ولا يجعل لمخلوق ضعيف قوّة فوق حدّه، قال تعالى، إن كيد الشيطان كان ضعيفًا.


ثم إنّ النفس إذا داومت على ذكر السحر والحسد والعين، فقد فتحت على نفسها باب البلاء، فإنّ الوهم إذا استقرّ في النفس استجلب ما يتوهّمه صاحبه."لا تتمارضوا فتمرضوا"، أي أنّ التخييل النفسي يتهيّأ حتى يصير مرضا حقيقيا. وكذلك من ردّد "أنه مسحور" أو "أنه محسود"، فقد أقرّ على نفسه شهادة، فجعل لسانه وسيلة للشيطان، هذا الأخير يدوّن ما قاله بلسانه ويعكسه عليه؛ فيحوّل الوهم مرضا، ويبدّل الظنّ يقينا، حتى يقع في الدوامة التي حبس نفسه فيها.


 "فناء أمتي بالطعن والطاعون". فقيل: يا رسول الله، عرفنا الطعن فما الطاعون؟ قال: "وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة". فالأصل إذن أنّ العلّة من وخز العدو الخفي، والباب الذي يفتح له هو الوهم والخوف المستقرّ في النفس.


فالخلاص ليس في الهلع ولا في ذكر هذه الأوهام ليلا ونهارا، بل في الاعتصام بذكر الله، وإقامة اليقين على أن الضارّ والنافع هو الله وحده. فما دام العبد في حمى الطاعة، لم يكن للشيطان إليه سبيل، وما دام مستضيئا بنور الذكر، لم يجد العدو منفذا إلى هالته النورانية. أما إذا تلطّخت النفس بالذنوب والمعاصي، فقد رفعت عنها الحُرمة، وأُذن للشيطان بالتسلّط عليها بقدر ما انكشف من سترها


إنّ الأمراض ليست محصورة في الأبدان، بل إنّ لها في النفوس نصيبا أوفر؛ وأوّل من تطرق إليه السقم النفسي الغبيّ الكسول، المائل إلى البطالة، الذي يظلّ يطوف حول نفسه طواف الحائر، لا منفعة له ولا انتفاع به. فهذا تسلّط عليه الهمّ والحزن، صارت الحياة عنده خاوية من معنى، وعمله مقطوع عن القصد، فلا يزكّي نفسه بالعمل الصالح، ولا يقرّبها إلى الله بالإحسان إلى العباد.


وأما الذكي العامل، فهو في الأغلب أبعد عن تلك العلل؛ إذا عرض له ضيق التمس له وجها من الحلّ، وبادر إلى الفعل، فانفرجت كربته ولم يجد للوهم طريقا إلى قلبه. فالعمل في ذاته دواء، والحركة حياة، والسعي زكاة للروح كما أن الزكاة طهارة للمال.


ومن الناس من يعيش في فراغ قاتل، لا يشغله ذكر ولا يملأه عمل. وهؤلاء أسرع الناس إلى اختلال النفس واضطراب المزاج. فإنّ العبادة في جوهرها عمل، والعمل في حقيقته عبادة؛ وما دام المرء نافعا لغيره، متصدّقا بجهده، جرت له دعوات الخلق، فكان له من الله سكينة ورضوان.


وأما المتذرّعون بظلم الناس لهم، فإنّك تجد أكثرهم من أهل المعاصي المعلنة، كالزناة وأهل الفواحش والشهود بالزور والماشون بين الناس بالرشوة. وذنب هؤلاء هو علّتهم بعينها، فليس يرجى لهم شفاء، لأنّ الذنب مرض، والعقوبة امتداد للداء. "إنّ العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه"، " الزنى تورث الجنون"، "بشّر الزاني بالفقر ولو بعد حين". فالفاحشة لا تلد إلا فقرا وضياعا واختلالا في العقل والمجتمع، وهي آفة تسري في الأمم كما يسري السّمّ في العروق.


وكذلك من أكل من الحرام، سواءا مال يتيم أو ميراث أو أكل أموال الناس بالباطل، فلقمته سُحت، لا بركة فيها ولا غذاء؛ بل تنقلب وبالا على الجسد، تورث أمراض المعدة والأمعاء والقولون وما جاورهما، لأنّ الجوف لا يستقيم بما هو خبيث. "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم". فما الأمراض المستحدثة في عصرنا إلا أمارات على غفلة القلوب وفساد الأعمال وانحراف الناس عن صراط الله المستقيم.


ومن أعظم أسباب العلل النفسانية والبدنية قطع الأرحام. فمن سدّ بابه في وجه رحمه، ولم يصل ذا قرباه، وأعرض عن حاجات المحتاجين، فقد سدّ على نفسه أبواب الرحمة، فانعكس عليه ذلك عللا وأمراضا وتعطيلا للبركة.


وأما الأمراض المستعصية والمزمنة، فليست وليدة الصدفة، بل هي في كثير من الأحيان أثر من آثار الظلم وجزاء من جنس العمل. وربما ابتُلي الولد بمرض عضال، فكان ذلك من أوزار الأبوين وظلمهما؛ إذ سنّة الله جارية أن يقول للظالم "قف عند حدّك". فالمرض في هذه الحال كتاب إلهيّ مفتوح، وعظة بليغة تنطق بلسان الحال، وما ربك بظلاّمٍ للعبيد.


فهي عقوبة تجري في الأرض، لا ينجو منها المجتمع إن رضي بالفاحشة. فالعقاب عادل، والردّ حاسم، فالخير مردود إلى صاحبه، والشر كذلك مردود إلى فاعله، لا يضيع عند الله مثقال ذرّة. وكما تجازي، تجازى… وكما تدين، تدان.


وأما من دسّ سحرا لعبد من عباد الله، فليعلم أنّ سحره سيرتدّ عليه، ومهما بحث عن علاج، فلن يشفى، لأن ما فعله عاد عليه جزاء وفاقا. ومن عمل عمل قوم لوط لا ينتظر العافية؛ ومن ظلم أجيرا وأكل من أجره، ردّ الله عليه مرضا يأكل من جسده كما اقتطع هو من عرق أخيه. ومن ظلم مسكينا فتركه يبكي بحرقة، ردّ الله عليه بكاء ممتدا من ألم عضوي لا يزول. 


وأشدّ من ذلك المفسد بين الناس بالنميمة. فمن فرّق بين الأزواج والإخوة، فإنّ خزيه مردود عليه، وكما فرّق بينهم يفرق الله الدم في قلبه ويفرق عظام جسده جزاء وفاقا، حتى ينكسر عظمه كما كسر روابطهم. وأما المسموم القلب بالحسد والبغضاء، فهو يحمل سمّه في كل موضع، فلا يستقرّ له عيش، ولا يعرف للراحة طريقا. والحسود يذبل في غيظه قبل أن ينال من غيره، والمشؤوم لا يورث إلا شؤما، والروح المعتمة لا تسكن إلا في ضنك وضياع.


إنّ الناس فريق طهرت سرائرهم، وحسنت أعمالهم، فحُفظوا بعين العناية الإلهية؛ فلا سبيل للشرّ إليهم، ولا منفذ للسحر في أرواحهم، إذ نور الطاعة يحجب عنهم سهام الأذى. وأولئك هم الصالحون الأطهار، لم يؤذوا أحدا، فلم يؤذَوا، ولم يفتحوا للشرّ بابا، فصانهم الله بما كسبت أيديهم من برّ وتقوى.


وفي المقابل، نرى من يزعم أنّه مسحور، وهو قد باع عرضه، وأهدر طهارته، حتى صار جسده ملعبا للأهواء. فهل يُسحر من دنّس نفسه بيده؟ وهل تنصبّ قوى الخفاء على القاذورات؟ إنما السحر يُقصد به الشريف في مقامه، الطاهر في سريرته، العارف في مكانته، لا من سقط في مهاوي الرذيلة بمحض اختياره. وإن وُجد سحر في مثل حاله، فهو إمّا من غاصبٍ أراد ستر جنايته، أو من فاجر ألصق العار بضحيته كيلا يُفضح أمره.


وكذلك من مورس عليه فعل الفاحشة من قبل ظالم غاشم، فليس موضعه موضع حسد ولا عين، ولا سبب لاستهدافه بسحر، وإنما لعلّ المعتدي عليه دسّ له ذلك لئلّا يُكشف جرمه. فالحسد لا يكون إلا على نعمة ظاهرة، علم نافع، أو سلطان راسخ، أو جمال آسر، أو مال موفور. أما من لم يملك من ذلك نصيبا، فلا يُحسد على خوائه، ولا يُسحر على ضعفه.


ومن عجيب أمر هذا الزمان أن ترى الفاشل في عمله يعلّق خسارته على مشجب الحسد، فيقول "لقد حسدوني على رزقي". وأيّ رزقٍ هذا؟ أيُحسد المنافق على نفاقه، أو الكاذب على كذبه، أو الجبان على فراره؟ إنما الحسد منصبّ على النعم الفعلية، لا على الأوهام والادعاءات.


والأغرب أن تأتي فتاة وتقول لقد سُحرت، وهي قد باعت جسدها لكل ذكر مر أمامها ! فأيّ سحرٍ يُذكر في مثل هذا الحال؟ أ تسحر القمامة؟ أ تسحر من دنّست عفّتها بيديها؟ السحر لا يصيب إلا من رفض أن يختار طريق السوء والرذيلة. وإن كان هناك من سحرها، فهو ذاك الناقص الذي لوّثها حتى لا تفضحه، أو ذاك العجوز الذي اغتصبها حتى يأمن من شهادتها.


والأعجب ذاك اللوطي الذي قال سحروه! أ يسحر لمكانته المنحطة؟ أ يحسد لقيمة لم يبلغها؟ بل لعلّ من اعتدى عليه هو من يسحره حتى لا يفضحه أو يكشف جريمته.


إنما يُحسد الذكي على علمه، والشجاع على شجاعته، والغنيّ على ماله. إن من يصاب بالعينٍ هو القائد العظيم أو الفذ النادر ؟! لا الغبيّ الذي جمع الثراء بالخيانة، ولا الجبان الذي يستر ضعفه بادعاء العيون ولا القبيح الذي يتزيّن بالثياب الجديدة والثمينة. فأيّ خير فيكم أو فضيلة ستُسحرون عليها أنتم؟!


 وماذا يفعل الشيطان بالشياطين؟ وماذا يفعل السحر بالسحرة؟! إن السحر خادمه شيطان، فهل الشيطان يضرّ الشياطين؟!

فكما أن المرض لا يطرق أبواب مرضى القلوب، فكذلك الشياطين لا تصيب من هم من طينتها.


ثمّ إذا قيل لأحدهم إنّ بك سحرا، اتّخذ ذلك ذريعة لعداوة الله والناس كافة، وجعل من نفسه محاصرا بجيش الإكتآب ومتوهّم ألا يرحمه طرفة عين! حتى سمعتم بعضهم يزعم أنّ "أميرة من الجنّ" دخلت فيه. وهذا في الحقيقة جهل فاحش، وإساءة إلى أقوام آخرين لا ذنب لهم في عبث بني آدم. وهل أميرة من الجنّ لا تملك مسكن تآوي إليه حتى تقيم في جسد منافق متّسخ!؟


ولنا أن نتأمل لمن كان يصرف ويعمل السحر في سالف الزمان؟ إنما كان يوجّه لمريم البتول لطهارتها، وليوسف الصدّيق لجماله، ولسليمان لملكه العظيم. ولسيدة نساء الجنّة فاطمة الزهراء لفقهها وعلمها، وليس لزبالة من هذا الزمان لعهرها؛ فبأيّ فضيلة تدّعون أن السحر وُجّه إليكم أنتم؟!


والحق أنّ العين والسحر والحسد صاروا مظلومين في ألسنة الناس؛ إذ أُلصقت بهم كل صغيرة وكبيرة، وغُيّبت الحقيقة أن أصل الداء إنما هو المعاصي التي راكمها الناس على قلوبهم. فلو بكى العبد على خطيئته كما يبكي على خسارته للدنيا، وخاف مقام ربّه كما يخاف "العين"، لكان الدواء أقرب إليه من حبل الوريد.


بل أزيدكم من الشعر بيت لو اجتمع السحر والعين والحسد في كتيبة وجيش واحد، لكانوا أهون أثرا من أمراض النفوس المظلمة التي استولت على أهل هذا العصر؛ فإن قلتَ لقوى الشر هذه أوقعوا المرض بهؤلاء الناس، لقالت قوى الشر "ما حاجتنا إلى ذلك، وهم مرضى من أنفسهم بأشدّ مما كنا نحن سنمرضهم به؟".


فالأمر إذا ليس سحرا ولا عينا، إنما هو امتحان وابتلاء يخصّ الصالحين ليزكّيهم، وأما هؤلاء المدّعون، فهم أبعد الناس عن الزكاء والصلاح. وما معنى أن يخدم الشيطان الشيطان؟ أو أن يُصاب الساحر بسحر؟ وهل يضرّ الشرير من هو من طينته؟!


فكما أن الداء لا يطرق بدنا معتلّا بالداء، فكذلك الشياطين لا تُضر من كان من جنسها. وأهل هذا الزمان كأنهم من ذريّة الشياطين؟! .

تعليقات