الإخبارية نيوز :
في ظل عالم يئنّ تحت وطأة الصراعات، ويترقب على أحرّ من الجمر أي بصيص أمل للسلام، تأتي قمة "النسر الأصلع" و"الدب الروسي" لتلقي بظلال من التساؤلات والشكوك. قمةٌ، لا تبدو كخطوةٍ جادة نحو إنهاء حربٍ دموية، بل أقرب إلى مسرحٍ سياسيٍ، يُقدم فيه كل طرفٍ عرضه، محاولاً تحقيق مكاسب على حساب الآخرين. قمةٌ، تُخرج الرئيس الروسي من عزلته، وتُعطيه فرصةً ثمينةً لإعادة تلميع صورته أمام العالم، بينما يترقب الأوكرانيون والأوروبيون نتائجها بقلقٍ بالغ، خوفًا من أن تُبرم صفقةٌ من خلف ظهورهم، تدفعهم ثمنًا باهظًا.
فوز بوتين المؤكد: كسر العزلة وتهدئة الغضب
لا يمكن لأحد أن يجادل بأن مجرد عقد هذه القمة يمثل انتصارًا دبلوماسيًا كبيرًاللرئيس الروسي. فبعد سنوات من العزلة الدولية والعقوبات، سحبت هذه المحادثات بوتين من "الجمود الدبلوماسي العميق". وبينما كان ترامب يعلن عن موعد القمة، كانت وسائل الإعلام الروسية تحتفل بهذا "الاختراق" الذي يعني الانهيار الكامل لمفهوم عزل روسيا. القمة لم تكن مجرد فرصة لالتقاط الصور، بل كانت فرصة لبوتين لزرع الخلاف داخل حلف الناتو، وتأجيل العقوبات الجديدة التي لوّح بها ترامب. فبدلاً من أن يُعاقب بوتين، حصل على قمة، وهذا ما يراه الخبراء نصرًا هائلاً له، بغض النظر عن نتائج المحادثات الفعلية.
السجادة الحمراء واستعراض القوة: صورة تناقض خطاب العزل
بينما ظل الغرب لثلاث سنوات متواصلة يردد شعار "عزل روسيا"، شهد العالم يوم الجمعة 15 أغسطس 2025 مشهداً يناقض هذا الخطاب جملةً وتفصيلاً: سجادة حمراء فاخرة مُدت في قاعدة إلمندورف ريتشاردسون في ألاسكا لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. الأكثر إثارة للجدل كان التحليق المفاجئ لقاذفات الشبح الأمريكية "B-2 Spirit" فوق رأس بوتين لحظة لقائه الرئيس ترامب. هذا الاستعراض الجوي، سواء كان ترحيباً أم تذكيراً بالقوة، أرسل رسالةً صامتة: فشل سياسة العزل في إقصاء روسيا، وأن اللقاء يجري بين قوتين عظميين على قدم المساواة - حتى لو كان ذلك فوق جثث الأوكرانيين.
المفاوض الساذج: ثقة مفرطة وفقدان للنفوذ
يُظهر الرئيس ترامب، بأسلوبه غير التقليدي، ثقةً مفرطةً في قدراته التفاوضية، لكن هذه الثقة قد تكون ساذجة في مواجهة خصمٍ محنكٍ مثل بوتين. لقد تنازل ترامب عن قدرٍ كبيرٍ من النفوذ دون مقابل، فمجرد الاجتماع مع بوتين هو مكافأة بحد ذاتها، تمنح الأخير شرعية دولية كان يفتقدها. وبينما يعتقد ترامب أنه قادر على إبرام "صفقة" في جلسة واحدة، يبدو بوتين أكثر حذرًا وواقعية، فهو يهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأمد، وليس مجرد حلٍ سريع. وقد أظهرت تجربة ترامب السابقة مع بوتين في هلسنكي عام 2018، حيث تقبل رواية بوتين بشأن التدخل الروسي في الانتخابات، ميله إلى قبول نسخة بوتين من الواقع.
أوكرانيا: بين خيانة الحلفاء والمساومة على الأراضي
يُنظر إلى هذه القمة في كييف على أنها تهديد مباشر لمستقبل أوكرانيا. لقد حذر الرئيس زيلينسكي من أن بوتين سيفوز، لأن كل ما يحتاجه هو صورة من الاجتماع. لكن القلق الأكبر يكمن في فكرة "مقايضة الأراضي" التي طرحها ترامب، وهي فكرة يرفضها زيلينسكي رفضًا قاطعًا، لأنها تتعارض مع الدستور الأوكراني وقد تؤدي إلى أزمة سياسية حادة. أي اتفاقٍ يتم التوصل إليه خلف ظهر أوكرانيا سيكون بمثابة خيانة لحليفٍ يقاتل من أجل بقائه. القمة تضع ترامب أمام خيار صعب: إما أن يكون "حكمًا محايدًا" في هذا الصراع، أو أن يكون شريكًا في الدفاع عن أوكرانيا، وهو دورٌ تراجع عنه باستمرار.
الناتو وتايوان: قمة تتجاوز أوكرانيا
ما يجري في ألاسكا يتجاوز بكثير حدود أوكرانيا. فالقمة تشكل اختبارًا حاسمًا لمستقبل حلف الناتو، الذي يرى فيه بوتين تهديدًا. إذا تمكن بوتين من إقناع ترامب بتقديم تنازلات إقليمية أو قيود على جيش أوكرانيا، فسيخلق ذلك تمزقًا هائلاً في الحلف. بالإضافة إلى ذلك، تراقب الصين القمة عن كثب، حيث تسعى للتنبؤ بمدى استعداد ترامب للدفاع عن تايوان في حال تعرضها للغزو. القمة ليست مجرد فرصة لبوتين لكسر العزلة، بل هي فرصة لتأكيد أن مصالح روسيا أوسع بكثير من أوكرانيا، وأنها ترغب في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم.
الثمن الإنساني: الغائب الأكبر عن طاولة المفاوضات؟
بينما تدور عجلة المفاوضات في قاعات مغلقة، يغيب صوت من دفع الثمن الأغلى منذ بداية الحرب: المدنيون الأوكرانيون. فكل تأخير في وقف إطلاق النار، وكل مساومة على السيادة أو الأرض، تعني استمرار معاناة الملايين الذين نزحوا من ديارهم، أو علقوا تحت القصف، أو فقدوا أحباءهم. قد يرى القادة في هذه القمة فرصة لكسر جمود دبلوماسي أو تحقيق نصر تكتيكي، لكن شرعيتها الحقيقية تكمن في مدى قدرتها على إيقاف نزيف الدماء وإعادة الأمل لمن باتت حياتهم رهناً لتحركات القوى العظمى. نجاح القمة لا يُقاس فقط بالاتفاقات السياسية أو التنازلات المتبادلة، بل بقدرتها على ترجمة كلمات السلام إلى واقع ملموس يلمسه من عانوا أكثر من غيرهم وطال انتظارهم للخلاص.
ختامًا: وفي نهاية المطاف، قد لا تكون هذه القمة أكثر من استعراض للقوى، تُستخدم فيه الأزمات الإنسانية كورقة تفاوض. في حين يصر ترامب على أنه "عبقري المفاوضات"، ويبدو بوتين وكأنه يسحب خيوط اللعبة بحكمة، يبقى مصير ملايين الأبرياء معلقًا على حبال الرياح السياسية. القمة ليست قمة سلام، بل هي مساومة على دماء وأراضي. وبينما يجلس القائدان على طاولة المفاوضات، يعلم العالم بأسره أن الثمن الحقيقي لهذه اللعبة السياسية سيدفعه الأبرياء الذين لا يملكون سوى الأمل. فهل سيتمكن "النسر الأصلع" من رؤية ما وراء استعراض القوى، أم أن "الدب الروسي" سيثبت أنه ماكرٌ بما يكفي لانتزاع نصرٍ دبلوماسيٍ يكرّس هيمنته؟ الأيام القادمة وحدها من ستجيب.
تعليقات
إرسال تعليق