القائمة الرئيسية

الصفحات

تحت وطأة الخوف .. نجلد أنفسنا طوعا



بقلم : مني العساسي 


قد يبدو الخوف مجرد شعور غريزي، لكنه يتجاوز ذلك، هو آلية سيطرة تمتد من أبسط العلاقات الإنسانية إلى أعقد الأنظمة الاجتماعية. قديما أدركت القوى المهيمنة أن تقييد الإنسان من الداخل أكثر فاعلية من قمعه من الخارج. السلاح ليس دائما العصا، وإنما فكرة تزرع في الوعي حتى يصبح المرء هو الحارس على نفسه.

فالخوف البدائي من الوحدة، من الألم، من الفقد، من المجهول، استُثمر بذكاء على مر العصور. ومع تشابك المصالح وتعقيد المجتمعات، صارت حاجتنا للعلاقات أشد، لكن هذه العلاقات غالبا ما تأسست على هيراركية السلطة، سلطة الأقوى؛ سلطة الأب في الأسرة، سلطة المال في السوق، سلطة المنصب في المؤسسات، وسلطة المصلحة في التحالفات.

في كل هذه الأطر، تستخدم آلية إخضاع الإنسان بالتخويف. أحيانا علنا عبر العقاب المباشر، وأحيانا عبر ما يمكن تسميته بـ “القداسة المؤسسية”؛ أي تغليف الخوف برمزية دينية أو اجتماعية تجعل مقاومته تبدو خيانة أو انحرافا.

وهنا تتجلى بوضوح “استراتيجية القلعة الخاوية”، التي عرفتها الحروب منذ عصر “تشوغي ليانغ” ونشأة علم نفس الحرب، أن تترك القلعة أبوابها مفتوحة عمدا، بينما تملأ أذهان خصومك بقصص عن فخاخ قاتلة أو كمائن لا نجاة منها، حتى يتراجعوا عن الدخول من تلقاء أنفسهم. هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى منع الاختراق بالقوة، إنما جعل الخصم أسيرا لمخاوفه.


على الصعيد الاجتماعي تطبق هذه الاستراتيجية بشكل أكثر مكرا، لا توجد سلطة اجتماعية تمنعك صراحة من التفكير أو الكلام أو التجربة، لكنها تغلف الأمر برموز مقدسة أو تحذيرات وجودية حتى تتولى أنت مهمة إسكات نفسك. تتحول القلعة إلى سجن ذهني، وأنت السجان والسجين معا. هذه الدينامية جزء من عملية التملك. فالسيطرة على الأنسان بالخوف تمنح نفوذا يتجاوز القوانين والحدود. الخوف هنا يصبح حصن منيع، وأداة لاستمرارية الوصاية. لكن الخضوع لم يكون أبدا مرادف للاستقرار. فما يكبت تحت ضغط الخوف يتراكم، وما يؤجل من مواجهة ينفجر في لحظة غير محسوبة. الحياة الكريمة لا تبنى على الانكماش داخل قلاع وهمية، فالجرأة في الخروج، ومواجهة العالم كما هو، والعيش بصفاء مع الذات هو النجاة، حتى لو خسرنا حماية مزعومة أو رضى أحدهم علينا.

تعليقات