بقلم: أحمد الشبيتي
في زحمة الحياة وتعدد المواقف والقرارات، يبرز قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من استبد برأيه هلك"، كحكمة خالدة تختصر تجربة الحياة بأكملها، وتضع يدها على جوهر من جوهر الأخلاق والعقل: المشاورة.
الاستبداد بالرأي.. بداية الانهيار
الإنسان بطبيعته محدود النظر، قاصر الفهم، محاط بزاوية رؤية ضيقة مهما بلغ من الذكاء والمعرفة. وعندما يعتمد الإنسان على رأيه وحده، ويغلق أذنه عن سماع الآراء الأخرى، فإنه يُعرض نفسه للخطأ، ويغلق أبواب الحكمة.
كم من أب أهلك أسرته بسبب عناده وعدم استشارته لأهل الخبرة؟
وكم من مسؤول ضيّع مؤسسة أو مشروعًا لأنه وثق برأيه فقط ورفض أن يتشاور؟
وكم من زوجة أضاعت بيتها لأنها لم تستمع لنصيحة أمها أو حكمة جدتها؟
إنها سُنّة من سُنن الحياة: الاستبداد بالرأي سبيل إلى الندم والهلاك.
القرآن يدعو للمشاورة
إن القرآن الكريم لم يترك هذا الباب دون توجيه، بل جعله أساسًا من أسس الحكم والقيادة والعيش المشترك. قال الله تعالى مخاطبًا نبيَّه ﷺ:
"وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين"
(آل عمران: 159)
فإذا كان رسول الله ﷺ، وهو مؤيد بالوحي، مأمورًا بالشورى، فكيف بنا نحن؟
إنها دعوة إلهية واضحة إلى احترام آراء الآخرين، وإشراكهم في الرأي والقرار.
والنبي ﷺ قدوة في المشاورة
في غزوة أحد، استشار النبي ﷺ أصحابه في الخروج من المدينة أو البقاء فيها، وكان رأيه البقاء، لكن الأغلبية اختاروا الخروج، فاحترم رأيهم، وخرج.
وفي غزوة بدر، قبل ﷺ مشورة الحباب بن المنذر في تغيير موقع الجيش، ولم يتعصب لرأيه، بل قال: "الرأي ما أشرت به"، ونفذ رأيه فورًا.
إنها دروس نبوية لا تتغير بتغير الزمان.
قصص من الواقع تؤكد الحكمة
أحد الأطباء المعروفين حكى أنه في بداياته تجاهل رأي ممرضة خبيرة في حالة حرجة، واتضح لاحقًا أنها كانت محقة، وكاد المريض أن يفقد حياته. ومن يومها، أصبح لا يُهمل رأي أي زميل مهما بدا بسيطًا.
رجل أعمال خسر آلاف الجنيهات في مشروع لأنه لم يشاور محاسبًا متخصصًا، واعتبر أن خبرته كافية.
وأب تجاهل رأي زوجته في تغيير مدرسة أبنائه، وبعد عام ندم حين تدهور مستواهم النفسي والتعليمي.
من فوائد المشورة:
1. توسيع الأفق والنظر من زوايا مختلفة.
2. تقليل فرص الخطأ والندم.
3. تقوية العلاقات بين الناس وتعزيز روح الفريق.
4. إشعار الآخر بقيمته ودوره في القرار.
ختامًا...
دعنا نتذكر دائمًا أن الرأي الواحد قد يقود إلى الهاوية، أما العقول المتعددة فتُبصِر الطريق من جوانبه كلها.
فلنترك العناد والغرور، ولنفتح أبواب قلوبنا وعقولنا للآراء المخلصة، فلعل في كلمة يقولها الآخر نجاتنا ونجاحنا.
"وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38)
فلنستوصِ بوصية القرآن، ولنقتدِ بسنة خير الأنام ﷺ، ولنحذر من الهلاك الذي يأتي مع الاستبداد بالرأي.
تعليقات
إرسال تعليق