الكاتب الصحفي والناقد الفني: عمر ماهر
في عالمٍ صارت فيه الأغاني سلعًا سريعة الهضم، تُلقى وتُنسى، نزلت "ضريبة البعد" كصفعة ناعمة على وجه المستمع، كحالة خاصة لا تُغنّى بل تُتنفّس… أغنية لا تبدأ حين تبدأ الموسيقى، بل تبدأ حين تتعطّل فيك اللغة، وتُفتح في قلبك منطقة حساسة… تُدعى "ما بعد الفقد". فمن أي ألم خُلقت؟ ومن أي جُرح تغذّت؟ ومن تلك السيدة التي لم تغنِّ فقط، بل انسكبت على المايكروفون كأنها جرح يُحاور الجرح؟
فلنُفكّك هذا الكائن السمعي، قطعة قطعة… كما يُفكّك المحقق مشهد الجريمة.
اللغز الأول: من التي لم تغنِّ كلمات أحمد عيسى… بل نزفتها؟
من هي تلك المرأة التي فتحت عينيها على ميعاد الحنين، فلم تجد سوى كسل الوجود؟ من التي لم تصنع قهوتها لتشربها، بل لتتظاهر بأنها تعيش؟ من التي أشعلت سيجارتها، لا لتدخن، بل لتختبر هل لا تزال تنتمي إلى هذا العالم؟ إنها أصالة… التي لم تنشد الكلمات بل سكنتها، لم تكتفِ بأن تقول: "بتعصر قلبي أيامنا"، بل جعلتنا نشعر بأصابع الأيام وهي تفتك بأوردتنا.
هنا، لا تعود "أصالة" مطربة… بل امرأة استُنزفت حتى نخاع النغمة، امرأة أصبحت صوتًا خامًا للحسرة، مزيجًا من كبرياء مكسور وصدق جارح، كل جملة كانت نصلًا، وكل وقفة كانت تنهيدة تُغني عن ألف كلمة، كأنها تقول: "أنا اللي البعد موتها"، ولا حاجة لأي شرح… لأنك ستراها تموت أمامك، موتًا حقيقيًا لا يقبل المجاز.
اللغز الثاني: من الذي لحّن الصراخ بلا أن يصرخ؟
من هو ذلك الملحّن الذي لم يصنع لحنًا… بل فخًّا عاطفيًا تسقط فيه دون مقاومة؟ من هو الذي قرأ ما وراء النص، وتجاهل الإيقاع المعتاد، ليخترع خطًّا موسيقيًا يترنّح كخطوات شخص لم ينم منذ ليالٍ طويلة؟
إنه مدين، الذي لم يكتب لحنًا بل رسم "دوخة"، جعل لحن "ضريبة البعد" لا يُسلَّم ولا يُسلّمك، بل يبقيك معلقًا بين نبضتين، كأن الموسيقى نفسها تتنهّد مع أصالة، تسعل، تتعثر، تترجّى! فلا يوجد قرار موسيقي واضح، بل مزاج دائم التحوّل، واهتزاز يُشبه تمامًا اهتزاز النفس التي لم تعد تعرف إن كانت باقية أم راحلة.
هذا اللحن لا يُحبّك في الأغنية… بل يُكرّهك في بعدها، ويُرغِمك على مواجهة وحش الوحدة بوجه مكشوف.
اللغز الثالث: من الذي كتب الكلمات وكأنها تقرير سرّي من قلبٍ منكسر؟
من هو أحمد عيسى، الذي لم يكتب كلمات أغنية بل أفشى أسرار جلسة نفسية؟ من الذي لم يحكِ عن البعد، بل فضح تفاصيله؟ من الذي كتب "بدأت ادفع ضريبة البعد" وكأنه كتب على جبين كل عاشق مكسور: "ادفع الآن… وإلا سيتوقف قلبك عن النبض ببطء"؟
عيسى لم يقل إن البعد صعب، ولم يستعمل استعارات مجازية. بل دخل إلى عمق التجربة، لمّ تفاصيل مَن ينام ويصحى ولا يشعر بأي فرق، مَن يُشعل سيجارته ويتركها تنطفئ في يده، من يحاول أن ينسى، لكن الصورة متبّتة في دماغه كأنها لعنة. لم تكن كلمات عادية، بل أقرب إلى طعنات مصقولة… تنزل واحدة واحدة، دون صوت، دون دم، لكن الألم فيها لا يُحتمل.
اللغز الرابع: من الذي وزّع الأحاسيس… لا الأصوات؟
من هو أمين نبيل، الذي لم يضع توزيعًا موسيقيًا بالمعنى التقليدي، بل نسج ستارة خلفية من الأصوات الرمادية، التي لا تنتمي للفرح ولا للحزن، بل للحالة المعلّقة؟ التوزيع هنا ليس خلفية للأداء… بل هو أداء صامت، يحكي نيابةً عن الأصالة حين تتوقف عن الغناء لتتنفّس!
الصداع المستمر، الزمن المتجمد، اللاشيء… كلها مفاهيم تم تجسيدها بتوزيع لا يفرض نفسه، لكنه يفرض عليك الإحساس. الكوردات تأتي ناعمة كيد تربت على كتفك، لكنها تُشعرك أنك وحدك، جدًا. الأصوات الخلفية تُشبه أزيز الصمت، أو نبض الخوف.
في هذا العمل، أمين نبيل كان أشبه بعازف على أوتار قلبك.
اللغز الخامس: من التي قرّرت أن تسجّل الألم لا الأغنية؟
أصالة، في "ضريبة البعد"، لا تؤدي… بل تنزف. لقد ذهبت بعيدًا جدًا عن منطقة الأداء المعتاد، واقتربت من المحظور: أن تُغنّي وهي على حافة الانهيار، بلا ماكياج صوتي، بلا مساحيق، بصوت مبحوح… كأنها تستخرج الحروف من بين أضلاعها.
صوتها في هذه الأغنية لا يطلب تعاطفًا، ولا يساوم على الإحساس. إنه صوت امرأة سقطت ولم تجد أحدًا يرفعها، فقررت أن تغنّي من وضع الجلوس، من قاع الشعور، من قاع القاع. كل لحظة في الأداء تبدو كأنها آخر نفس تقدر على إخراجه، وكأنها تقول: "أنا بدفع تمنه بسنيني… بالغالي"، مش بس كلمات… ده قسم، وقسم موجوع.
اللغز السادس: من هو المتلقي الحقيقي للأغنية؟
قد تظن أن "ضريبة البعد" كُتبت للمحبين فقط… لكنها في الحقيقة، أغنية لكل من فقد شيئًا: شخص، حلم، طمأنينة، حتى نفسه. الأغنية تتوجّه إلى الذين استيقظوا على نفس الموعد، وشربوا نفس القهوة، وسمعوا نفس الأغنية، لكنهم لم يعودوا نفس الأشخاص.
هي ليست عن الفراق فقط، بل عن انكسار الإيقاع الداخلي. عن الأيام التي لا تمشي. عن الشوق الذي لا يزول. عن النفس التي تُرهقها الذكرى، وتُتعبها كل فكرة عن الماضي.
الخاتمة: هل ندفع ضريبة البُعد… أم نحن الضريبة نفسها؟
"ضريبة البعد" ليست أغنية ناجحة لأنها تصدّرت التريند… بل لأنها أيقظت ألمًا عالميًا، وجعلت من الحنين مشتركًا بشريًا، لا يفرّق بين عاشق في بيروت، أو وحيد في القاهرة، أو مكسور في باريس.
لقد اجتمعت عناصرها كلها في لحظة صدق مطلقة: الكلمة من الداخل، اللحن من جرح قديم، التوزيع من فراغ قاتل، والصوت… من امرأة ليست بخير، ولم تدّعِ العكس.
هذه ليست مجرد أغنية… بل اعتراف جماعي بأن البعد ليس عارضًا، بل حالة. وأننا حين نخسر من نحب، لا نخسرهم فقط… بل نخسر أجزاء منّا معهم، ونبقى نحن لندفع الثمن… كل يوم.
كل دقيقة.
كل نبضة.
هذه هي ضريبة البُعد.
تعليقات
إرسال تعليق