بقلم د.بوخالفة كريم ، الجزائر
في زمن تحوّلت فيه الصورة إلى مصدر للشرعية، وتراجعت فيه مكانة الواقع لصالح المشهد الافتراضي، يُطرح تساؤل جوهري حول مصير السياسة كفعل اجتماعي وكأداة لتغيير الواقع. لقد دخلت المؤسسات، والنخب، والمجتمع في سيرورة جديدة من التفاعل، لم تعد تحكمها الضرورات الواقعية بقدر ما توجهها ردود أفعال «الكائنات الرقمية» في منصات التواصل، وعلى رأسها الفايسبوك. هذا التحول ليس مجرد تطور في أدوات التواصل، بل يعكس تغيرًا في نمط إنتاج المعنى، ومصدر المشروعية، ومعايير النجاح.
انطلاقًا من هذا المشهد، يمكن طرح الإشكالية التالية: هل تحوّل الفايسبوك من أداة تواصل اجتماعي إلى بوصلة سياسية تحدد سلوك المسؤولين والسياسيين؟ وهل أصبحت لايكات المتابعين المجهولين بديلاً عن صوت المواطن الحقيقي؟ وكيف نفسر هذا التحول سوسيولوجيًا وفلسفيًا؟
يرى بيار بورديو أن الحقول الاجتماعية، ومنها الحقل السياسي، تُنتج رمزيًا عبر التفاعلات، وتكتسب فاعليتها من خلال رأس مال رمزي محدد¹. وفي هذا السياق، صار رأس المال الرمزي اليوم هو عدد المتابعين، والتفاعل، و«الترند»، لا الإنجاز الواقعي أو الاستجابة الفعلية لمطالب المجتمع. وهذا يعكس انتقالًا من شرعية الفعل إلى شرعية الصورة، وهو ما يشبه ما وصفه جان بودريار بـ«الفرط الواقعية» حيث تغدو التمثلات أقوى من الواقع نفسه².
أما من منظور التفاعلية الرمزية لـإرفينغ غوفمان، فإن السياسيين والمسؤولين اليوم يؤدّون أدوارهم وفق ما يتطلبه «المشهد الافتراضي»، لا الواقع المؤسساتي. الفايسبوك هنا أشبه بـ«خشبة مسرح» يتبادلون عليها الأدوار أمام جمهور غير متجانس ولا معروف، لكنه يتحكم بردود أفعالهم وقراراتهم³. ولم يعد المواطن يُخاطب كفاعل اجتماعي بل كمستخدم متفاعل، صامت أو غاضب، على منصات غير قابلة للضبط.
ثقافيًا، تحوّلت العلاقة بين الدولة والمجتمع إلى علاقة استهلاكية بصرية، حيث أصبحت الدولة تعرض «منجزاتها» بشكل بصري على الفايسبوك لا عبر نتائج ملموسة في حياة الناس. المسؤول يخشى «الفضيحة الرقمية» أكثر من محاسبة فعلية، ويهتم بتأثير منشوره أكثر من أثر قراره. إنها ثقافة «التفاعل» لا ثقافة «التحليل»، وهو ما يعيد إنتاج الرداءة والتفاهة في صورة النجاح الرمزي الزائف.
إن هذا التحول في منطق التواصل السياسي لا يمكن فصله عن أزمة الحوكمة الإدارية في السياقات العربية، لا سيما في الجزائر، حيث يُلاحظ أن الرقابة الرقمية حلت محل الرقابة المؤسساتية، وتحوّلت مؤشرات الأداء إلى مؤشرات تفاعل، في تغييب مقصود للمواطن كفاعل حقيقي في تقييم السياسات العمومية. إن الحوكمة الرشيدة، كما تقتضيها المقاربات الحديثة، تقوم على الشفافية، والمحاسبة، والفعالية، وهذه الشروط لا يمكن تحققها من خلال استعراضات رقمية جوفاء، بل عبر ترقية الرأسمال البشري، وتطوير كفاءة الإدارة، وفك ارتباطها بثقافة التبرير والإرضاء الافتراضي. إن عصرنة الإدارة لا يمكن أن تكون تقنية فقط، بل يجب أن تكون ثقافية ومؤسساتية، تؤسس لعلاقة عقلانية بين المواطن والمؤسسة، لا علاقة تُبنى على «الترند» و«اللايك». إن مقاومة الفساد، أيضًا، لا تمر فقط عبر النصوص بل عبر تجفيف منابعه الثقافية، ومن أبرزها ثقافة الإرضاء الظاهري للمجتمع الافتراضي بدل الاستجابة الواقعية لمطالب المجتمع الفعلي. من هنا، فإن سيطرة الفايسبوك على عقل الإدارة يعكس تغلغل بنية ضعف الحكم وفقر الخيال المؤسساتي، وهو ما يشكل عقبة أمام أي مشروع حقيقي لترقية الرأسمال البشري وعصرنة الإدارة.
هذا التحول يعكس أزمة عميقة في بنية الحوكمة، حيث تُستبدل الرقابة المؤسساتية بالرقابة الرقمية، ويتم تهميش الواقع لصالح صدى اللحظة. يتحول السياسي من فاعل واقعي إلى مؤدٍّ رقمي، وتتحول السياسة إلى مشهد استهلاكي لا يسعى للتغيير بل للاستعراض. وبالتالي، تصبح الفايسبوك أداة لصناعة الوهم وليس الحقيقة.
في الأخير، لا تكمن خطورة الأمر في استعمال المسؤولين للفايسبوك، بل في تحوله إلى مرجع أوحد لسلوكهم وقراراتهم. حين تصبح الصورة أهم من المواطن، والمشهد أهم من الواقع، نكون أمام انهيار بطيء لمعنى السياسة نفسها كأداة لبناء المستقبل. الفايسبوك قد يكون وسيلة، لكنه لا يجب أن يصير غاية
الهوامش
1. Pierre Bourdieu, Sur la télévision, Liber, 1996.
2. Jean Baudrillard, Simulacres et Simulation, Galilée, 1981.
3. Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life, Doubleday, 1959.
تعليقات
إرسال تعليق