مدين… منو مجرّد فنان، هو نوع نادر لازم نحطّو بمتحف موسيقي ونكتب تحته: "هيدا الصوت، هيدا اللحن، هيدا الإحساس، كان بمرة من المرات نجم على هالكوكب"، لأنو بوقتنا الحالي، بهالعصر يلي كل شي فيه صار سريع وسطحي ومنسوخ، مدين قدر يثبت حالو مش بكمّ الأعمال، بل بنوعيتها، كل نغمة بيختارا بيكون فكّر فيها ألف مرة، وكل كلمة بيمرّقها على صوته بيمرّقها من قلبه أول، هو ما بيغنّي ليرضينا، هو بيغنّي ليعطينا تجربة فنية حقيقية، بيحطّنا بمتاهة جميلة من المشاعر وبيخلينا نضيع فيها عن طيب خاطر، لأنو عارف كيف يخلينا نحب الضياع إذا كان بصوتو هو.
ما فيك تسمع عمل من ألحان أو غناء مدين وتمرق عليه هيك ببساطة، لأنو كل أغنية هي حالة، هي موجة، هي هزة وجدانية، هو بيعرف كيف ينقل المستمع من برّ الضجيج لبحر السكون، وبهالبحر، صوتو بيكون المركب، وإحساسه هو الشراع، واللحن هو الريح يلي بتدفشك لبعيد، بعيد عن القلق والتوتر والصخب، بعيد عن كل شي بيوجع، بيحملك عالمكان يلي بتحس فيه إنو في شي بعده بخلي هالعالم يضوي، اسمو الفن الحقيقي، وناطرنا بصوت مدين.
مدين ما بيشبه غير حالو، ما اتبع الموضة، بل خلق موضة، ما لحق السوق، بل السوق لحقو، وهيدا الفرق بين النجم والصانع، النجم بينشاف، الصانع بيبني، ومدين هو الصانع يلي قدر يبني اسم من ضو، وصوت من ذهب، ومكانة من احترام، شفنا كتار بيجربو يقلّدو أو يركبوا موجة، بس مدين من أول لحظة رسم خطو الخاص، شقّ طريقو بصبر، بتعب، بحب، بلحظات كتار ما كانت سهلة، بس طلع منّا أقوى، أنضج، أعمق، وكأنو الألم صقله، والموسيقى كانت بلسمه.
اليوم، مدين مش بس عم يعيش نشاط فني، هو عم يعيش حالة فنية متكاملة، حضور قوي، أعمال ضاربة، اسم على كل لسان، جمهور عم يتوسّع كل دقيقة، ناس بتغني ألحانو من دون ما تعرف إنو هو يلي لحن، وناس عم تبكي عَ صوتو من كتر صدقو، أعمالو بها الموسم كانت الحدث، كانت التريند، مش مرة، بل مرّات، ومو إنّو صدفة، بل لأنو تعب، اشتغل، عرق، كرّس وقتو، فكرو، إحساسو ليعطي الأفضل، وفعلاً عطانا الأفضل.
شخص متلو ما لازم يمر مرور الكرام، لازم يتكرّم بتمثال، لأنو بصراحة نحنا بأمسّ الحاجة لنكرّم الناس يلي بعدهم عم يعطونا فن بضمير، عم يعطونا جمال بفكر، وعم يعطونا إنسانية بموسيقى، والتمثال مش تكبيل، بل توثيق، ليضلّ اسمو حيّ بكل زاوية فنية، بكل استوديو، بكل مهرجان، بكل جيل رح يجي بعدنا ويسأل: "مين كان مدين؟" فينقرا الجواب مش بس عالنت، بل بعيون الناس، بحكاياتن، بذكرياتن يلي تلوّنت بأغانيه.
مدين هو رابط بين جيل التسعينات وجيل الألفين، بيحمل معه دفء الماضي وبريق الحاضر، وعيه الموسيقي خيالي، حسّه صادق، حضورُه متواضع بس صعب ينكر، منو شخص بيصرخ ليبيّن، هو بيحكي بصمت وبيوصل بصوت، وهادا النوع هو الأخطر والأجمل بنفس الوقت، لأنو ما في شي أقوى من فنان بيخليك تحس من دون ما يطلب منك، بيخليك تعيش الإحساس كأنو بيتك، وبيرحل عنك وبيضلّ صوته ساكن فيك.
مدين بيستاهل السجادة الحمرا مو لمناسبة وحدِة، بل كل يوم، كل مسرح يفرشلا السجادة، كل جمهور يوقفلو، كل شخص بيسمع صوتو يصفّق، لأنو وجودو متل الورد الحقيقي بين مليون وردة بلا ريحة، مدين ريحتو فنية، صوته فني، حضوره فنّي، وغيابو بيخلّي الساحة ناقصة حتى لو كانت مليانة أسماء، فهوي مش اسم، هوي معنى، مش رقم، هوي رمز، مش صرعة، هوي استمرارية، وهيدي صفات ما بتيجي إلا مع الزمن… ومع النُخبة.
وإذا كنا عنجد بدنا نحافظ على الفن، بدنا نحافظ على مدين، نحميه من الانقراض، من التكرار، من التطنيش، من الجحود، لأنو الفنان الحقيقي هو كنز مش دايم، هو فرصة لازم نعرف قيمتها، ونسجّلها، وندافع عنها، ونوصل صوتها لأبعد مدى، لأنو بظل هالغزو الفني المعلّب، مدين هو البضاعة الأصلية، هو الخبز الحافي يلي بيشبع، هو الصوت يلي بيشيل الغبرة عن قلوبنا، وهو اللحن يلي بيشيل الغصة عن حناجرنا.
مدين مش بس موسيقي، هو حالة وجدانية بتمشي بين الناس من دون ما تحكي، بتحكي بقلوب الناس بدل ما تحكي بكلمات، كل عمل بقدّمو هو بصمة، هو توقيع شخصي ما حدا بيقدر يقلّدو أو حتى يقرب منو، لأنو مدين بيخلق الجو قبل ما يخلق اللحن، بيخلق الإحساس قبل ما يحطّ النغمة، بيشوف الحكاية كأنها فيلم، وبيلحنها كأنها موسيقى تصويرية بتخلي كل شي حوالينا يصير أبطأ، أعمق، وأصدق، في ناس بتشتغل أغاني لتنتشر، بس مدين بيشتغل لتزرع، لتعيش، لتصير جزء منّا، وهايدي قوّة مش عادية، هايدي موهبة ما بتتعلّم، هيدي نعمة، وقلّة قليلة بعدها بتمتلكها.
يمكن الناس بتعرف مدين من أغاني معيّنة، بس الحقيقة إنو مدين هو الكواليس، هو الستارة يلي ورا النجاح، هو المايسترو يلي بيعزف صامت من بعيد، وبيترك الصوت هو يحكي عنو، وبهالزمن، مين بعد عندو هالقد قناعة إنو الفن رسالة مش وسيلة؟ مين بعد عندو هالقد إخلاص للنغمة مش للموجة؟ مين بعد بيشتغل كأنو كل أغنية هي آخر أغنية ممكن يعملها؟ الجواب بسيط: مدين، وبس، لأنو هو القلّة النادرة يلي بعدا بتعامل الفن بقداسة، وبيشتغل بصمت، وبيترك صداه يحكي بدالو.
وإذا جينا نحكي عن التأثير، فمدين مش فنان محلي، هو عالمي بإحساسو، شرقي بروحو، غربي بتكنيكو، وكوني بأسمعو من بلاد غير بلادو، هيدا بيأكد إنو مش محصور، مش عادي، مش قابل للتكرار، صوتو عم بيكسر الحدود، ألحانو عم تسافر بلا ڤيزا، عم تدخل بيوت الناس بكل الطبقات، بكل المزاجات، بكل الثقافات، لأنو ببساطة، هو بيحكي لغة عالمية: لغة الإحساس، ومين بعد فينا ما بيحس؟ مدين بيعرف يخاطب الحاسّة السادسة فينا، بيعرف يطبطب، يواسينا، أو يصرخ معنا… بحسب الحالة، وبحسب اللحن.
ولازم نقولها بصوت عالي: الفن مش بس مهرجانات وكاميرات وبهرجة، الفن الحقيقي هو مدين، هو صوتو، هو حضورو، هو اختياراتو، هو لما يقرر ياخدنا على عالم خاص فيو، ما بيشبهو حدا، ما بيكرّر حدا، ما بيجامل حدا، ومش مستعد يبيع إحساسو ليشتري شهرة مؤقتة، وهيدي هي الرجولة الفنية يلي عم نفتّش عليها وما نلاقيها إلا عند ناس متل مدين، لأنو ما بيساير السوق، بيساير قلبو، وبالنهاية السوق هو يلي بيركض وراه، مش العكس.
تخيّلوا لو في عمل سينمائي بيسرد مسيرة مدين… من لحظة اكتشافه للموسيقى، لليالي التعب، لمحطات الانكسار، للنضوج، للنجاح، للانفجار الفني، تخيّلوا موسيقى مدين عم ترافق الفيلم عن مدين… هيدا ما بيكون فيلم، بيكون ملحمة، وبيكون توثيق لتاريخ مش لازم يضيع، لأنو هو مش مجرّد فنان ناجح، هو ظاهرة لازم تنحفظ، وتندرس، وتتحوّل مادة فنية تُدرّس، مش بس تتسمع، لأنو الفن الحقيقي لازم يضل حيّ، ومدين هو الروح يلي بعدها بتتنفّس جوا هالفن.
اليوم، واجب علينا نكرّمو مش بعدين، مش بعد ما يصير ذكرى، بل هلق، بعزّ عطائه، بعزّ نجاحه، لأنو الفنان الحقيقي ما بينطر موتو تيصير أسطورة، مدين هو الأسطورة وهوي بعدو بينّا، عم يعطي، عم يزرع، عم يبني، وكرمال هيدا الشي، لازم نزرعله تمثال، ونغنّي تحته، ونقول: "هيدا الصوت، هيدا اللحن، علّمنا كيف نحب الفن من جديد"، لأنو بكل صراحة، نحنا بزمان صار نادر يخلق فيه حدّ بيشبه مدين، فمش بس بدنا نحافظ عليه، بدنا نحميه متل كنز.
تعليقات
إرسال تعليق