كانت تحبّ النوافذ.
منذ طفولتها، كان لها طقسٌ خاص:
تفتح نافذة الغرفة في الظهيرة، تمدّ يدها الصغيرة إلى الخارج، تلامس النسيم، وتغمض عينيها.
كانت تتخيّل أن النسيم صديقها الوحيد،
لا يسألها: "أين كنتِ؟" ولا "من كلّمتِ؟" ولا "لماذا ضحكتِ؟"
في يوم صيفي، حين كانت في العاشرة، فتحت النافذة خلسة…
مدّت كفّها نحو الشمس، وشعرت للحظة أنّها أطول من الجدران، من المنع، من الكبار.
ثم صفعتها أمّها.
لا لأنّها أخطأت… بل لأنّها فتحت الضوء.
منذ ذلك اليوم، بدأت تدرك أن الأنثى لا ينبغي أن تُرى، ولا أن تُطل، ولا أن تتنفس خارج حدود الباب.
كبرت وهي تخشى النوافذ.
في المدرسة، حين تفوّقت، قالوا لوالدها: "دعها تركّز في المطبخ، لا في الحساب."
وفي الجامعة، حين رفعت صوتها في مناقشة، قيل لها: "صوت المرأة لا يُعلَن."
وحين كتبت أوّل قصيدة عن الشوق، مزّقوها باسم الحياء والدين،
وقالوا لها: "اكتبي وصفات الطعام… فالشعر لا يليق بالفتيات."
حتى حبّها الأول.
أُغلق عليها كما تُغلق نافذة في وجه الفجر.
قالوا: "تحبّ؟!"
وكان الحبّ في قواميسهم جريمة،
فماتت قصيدتها، ومات في قلبها شيء لا يُدفن ولا يُنسى.
اقرا ايضا هو الذي كان
تزوّجت كما أرادوا.
رجلٌ لا يفتح النوافذ، ولا يستنشق الهواء، يخاف من الضوء أكثر مما يخاف من الله.
يغلق الستائر في ذروة النهار.
كأنّ الشمس تفضح قسوته.
كان يُغلق النافذة كلما فتحَتها،
ويقول لها: "البيت لا يحتاج إلى الهواء… يكفي أنفاسك."
ولا يعلم أنّ أنفاسها كانت تختنق خلف كل زجاج.
وفي ليلة شتوية، بعد مشادّة خرساء،
جلست وحدها في ركن الغرفة، وكتبت على ورقة مهترئة:
"إنني لا أريد أن أركض في الشوارع، ولا أن أصرخ، ولا أن أخطب في الناس.
كلّ ما أريده نافذة.
أطلّ منها على نفسي، على امرأةٍ حلمت كثيراً ولم يُصغِ لها أحد.
نافذة لا تُغلق، لا تُراقَب، لا تُحاسب، لا تُصفَع."
في الصباح، مدّت يدها نحو النافذة.
تردّدت.
في رأسها، كانت أصواتهم جميعًا تصرخ:
"لا تفتحيها."
"الناس يرونكِ."
"الهواء يُفسد النساء."
لكنّها فتحتها.
مرّ هو من خلفها، شهق وكأنّه رأى خيانة،
وقال بعصبية مكسورة:
"كم مرّة قلتُ لكِ لا تفتحيها؟!"
نظرت إليه بهدوءٍ لم يُشبه أيّ هدوء سابق،
وقالت:
"لأنّني كلّما فتحتُها شعرت أنّني ما زلتُ حيّة.
لقد أغلقتها كثيراً… ومِتُّ كثيراً.
واليوم، سأعيش… ولو من شقّ نافذة."
تعليقات
إرسال تعليق