( أبراج من ورق ) للكاتب المغربي :
سعيد رضواني.
بقلم : محمد الطايع
عنوان الدراسة : تشابك أنواع السرد، وتناظر أشكال الحياة، وحوار الأضداد في رواية : ( أبراج من ورق )
* مقدمة :
1 - حول النظرية الذرائعية في النقد :
لم يكن اختيارنا للنظرية الذرائعية في النقد، صدفة ورفاهية، بل كان قرارا أوصلتنا إليه، رغبتنا في تحقيق بعض الاحتواء النسبي، لنص رواية أبراج من ورق، لكاتبها سعيد رضواني. هذه الرواية الصعبة والمختلفة، من أجل دراستها وتحليلها بشكل منهجي ملتزم، مع إيماننا بضرورة اشتغال الناقد، تحت أعين نظرية نقدية علمية، تبعد عنه صفة النقد التائه، وهي تمنحه معايير الفهم والاستدلال، وتدلل له مشاق التماهي مع النص الإبداعي، من قشرته إلى جوهره، كما تقول النظرية، وتؤطر حالة وعي الناقد بمنجزه الأدبي والمعرفي.
نعتقد ولسنا وحدنا من نقول بهذا، أن النظرية الذرائعية في النقد، هي الأقرب للنص الإبداعي العربي، وأنها جاءت استجابة لما تتوسمه الأجناس الإبداعية العربية، من قراءة وتحليل، يوائمان تطلعاتها، فتسد حاجة النص العربي لنقد على مقاسه، ولن تكون على مقاسه مناهج نقدية مستوردة عن الغرب، تخضعه لقوالب لم توضع لتناسب خصوصياته، وهي تفرض عليه أن يتماهى مع أشكال قراءة دخيلة، تنزع عنه صفة الأصالة، وتخلع عنه شرط الاستقلالية. إذ لا يمكن استثناء الأدب من الفكر والقيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية، ومن يفعل ذلك فإنه يجرد الأدب من جوهر وجوده وقيمته وغاياته، أو يبخس النقد حقه، فيكون النقد جسدا بلا روح، مجرد آلة، ينتهي دورها بمعزل عن غايات الأدب الأسمى.
نقول هذا لأننا تأكدنا، أن مدراس النقد الغربية، على اختلافها، تفرض على النص العربي عموما والإسلامي خاصة، قيما معارضة هدامة، ومفاهيم فلسفية تشكل في أساسها إهمالا لما يؤمن المبدع العربي أنه جوهر علاقته بالعالم والوجود، وذاك أن هذه المدارس والمناهج، لم تنشأ بمعزل عن التطورات الفكرية لأممها. هذا ولا ننكر أن الأدب العربي، والنظرية الذرائعية أيضا، يتوافقان مع المدارس النقدية الغربية في بعض الجزئيات والكليات، ويخالفانها في الكثير من الجزئيات والكليات أيضا. ذلك ما يحدث النفور الذي ينقلب التغاضي عنه سلبا على القارئ والمبدع، ويمنحهما إدراكا هجينا.
ترى النظرية الذرائعية في النقد، بعدم واقعية الأدب، فالأدب انزياح عن الواقع، وهو فعل مواز تتجلى قيمته في نتائجه وغاياته، لأنه لن يكون بديلا عن الحياة، لكنه قطعا عين ثانية ننظر من خلالها لوجودنا. هنا رأيت أن النظرية الذرائعية تتوافق تماما مع نص الرواية محط الدراسة، والتي ترى هي أيضا أن الأدب وسيلة مساعدة لفهم الواقع، وأن غاية ممارستنا له من شأنها تحقيق فضيلة الوعي بالذات والهوية، وتأكيد قيمة الوجود الانساني. باعتبار أن نتيجة العمل، ناجحا أو فاشلا، هي أهم وسائل الحكم عليه.
من شأن الذرائعية، أن تفسر لنا الطرق والأساليب التي انتهجها الكاتب سعيد رضواني، في روايته: أبراج من ورق، وتؤكد لنا بالدليل، قيمة هذا المبدع الفكرية والثقافية، وكيف كافح خلال حبكة نصه الروائي الجاد في مشروعه، أن ينتصر للحرف العربي، مقابل الحرف الإفرنجي الدخيل، وذلك من خلال عملية تهديم وبناء لغوية، كانت الغاية منها تحقيق العدالة. من أجل ذلك لم أخف دهشتي واستغرابي، من مدى توافق ما ذهب إليه الكاتب المبدع والمجدد سعيد رضواني، مع ما سطره الدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي في كتبه ومؤلفاته التي عرف من خلالها بنظريته النقدية الجديدة، والتي لقيت صدى وترحيبا طيبا عند عدد كبير من المثقفين العرب. فكنا ضمن الذين درسوا أبعادها، وآمنوا بضرورتها التاريخية. أقول: هاهنا تلاقت الرؤى وتحالفت الهمم، واتفق الناقد والمبدع، أنه قد آن الأوان للأدب، والنقد العربي أن يقولا كلمتهما، وينتصرا للهوية الثقافية العربية.
2 - الفكرة العامة لرواية ( أبراج من ورق )
رواية أبراج من ورق للروائي والقاص المغربي، سعيد رضواني، تحكي قصة كاتب يعيش تأرجحا داخليا بين شكه ويقينه، أن والده قد تعرض للقتل، والده الذي كان بدوره كاتبا، مما يلهم الابن بالتحقيق في واقعة موت أبيه، عن طريق كتابة رواية جديدة، تعتمد تقنية التناظر التي يعتقد أنها قادرة على فك شيفرات غموض الحياة. وذلك مزامنة مع اجتهاده من أجل ترميم معالم ضيعة ورثها عن أبيه الذي ورثها هو أيضا عن جده. الجد أقام في الضيعة أبراجا على شكل أحرف خرسانية، قام الوالد ببنائها على شكل رسالة مشفرة تتضمن اسم قاتله، ثم قام الابن بعد ذلك بتهديم الأحرف، لإعادة بنائها بشكل واضح ينتصر للهوية العربية، ويحقق العدالة للأب، ويحافظ على إرث الجد، وكل هذا يتم بشكل عجائبي، يجعل من الكتابة فاعلا أساسيا في تغيير الواقع، ودمج الكتابة بالبناء.
3 - نبذة عن الكاتب:
سعيد رضواني:
قصاص وروائي مغريي، من مواليد سنة 1972 ، له عدة مؤلفات منشورة ، كلها تنتمي لجنس السرد.
مجموعة قصصية بعنوان ( مرايا ) وقد لقيت هذه المجموعة، انتشارا واسعا، وترحيبا وحفاوة بالغة من طرف الجمهور العربي. وقد نشرتها دار البانثيون في باريس سنة 1999 باللغة الفرنسية بعد أن ترجمها الشاعر الفرنسي المغربي الأصل جمال خيري.
نفس النجاح والقبول حضيت به مجموعته القصصية، ( قلعة المتاهات )
ثم صدرت له رواية أبراج من ورق، عن دار الآداب، فازت هذه الرواية بجائزة أسماء الصديق للرواية الأولى، وهي محط الدراسة، الرواية أيضا أسالت مداد عدد كبير من أقلام النقاد والدارسين والمهتمين،
سعيد رضواني، كاتب مجتهد، وهو بصدد انهاء رواية جديدة، ومجموعة قصصية ثالثة، نشر عددا من نصوصها في عدة جرائد محلية وعربية، تلك النصوص التي تقابل بكم هائل من الحفاوة مع تراكم مشهود من طرف النقاد..
* المدخل البصري:
1 - مقدمة رواية أبراج من ورق:
عند تصفحنا لرواية أبراج من ورق، سوف تطالعنا مقدمة صالون الملتقى الخاص بجائزة أسماء صديق للرواية الأولى. وهي مقدمة تتصف بالحياد من حيث معايير الحكم، ثم المسؤولية والأمانة العلمية، والموضوعية والتعبير عن رغبة الملتقى في تأكيد قيم الأدب الرفيع. مع إشارة لقيمة الجائزة وما تجسده من دعم للكتاب، إضافة لشهادة نقدية، تتضمن كلمة تؤكد سبب وقوع اختيار الجائزة على هذه الرواية، وما أضافته للمشهد الروائي العربي، وما تميزت به من قدرة مشهودة على خوض غمار التجريب، مع إشادة برواية أبراج من ورق، وكيف أن التجديد فيها على مستوى الشكل، لم تكن الغاية منه استعراضا للمهارات السردية، بل انتاجا لوحدة موضوعية بين الشكل والمضمون
2 - عتبة الرواية ( الغلاف )
من خلال تأمل العتبة الأولى للرواية: نشاهد لوحة الغلاف والتي تتضمن خلفية سماء زرقاء، وطيور محلقة، على سماء تعكس رمادية الأفق الأعلى، الذي يرمز لغموض المستقبل، بتصدرها العنوان، المكتوب فوق خط أبيض دقيق فاصل بينهما ( أبراج من ورق ) ذلك الخط الأبيض الدقيق يرمز لبياض صفحة الكتابة، بينما يحيلنا اللون الأزرق الغامق، لخط عنوان الرواية ومن فوقه اسم الكاتب ( سعيد رضواني )، إلى لون المداد.
أسفل اللوحة زخارف بكتابة عربية، تحيلنا على التراث المعماري العربي، تعلوها أشكال أقواس يتماهى خلالها شكل البناء بأشكال أحرف، شبه لاتينية غير واضحة، وعربية مميزة أحرفها، مع وجود حرف الشين في حال انعكاس برتقالي اللون، يعلو تلك الأشكال التي تتخللها جمل عربية متفاوتة الأحجام. مع وجود نبتتين متقابلتين. وكلمة رواية مكتوبة بشكل أفقي عن يمين منتصف الغلاف.
3 - عنوان الرواية :
شخصيا أعتبر عنوان هذه الرواية أبراج من ورق، ذلك العنوان: الجذاب، المستفز، المشوق، لأنه أيضا: محير، مثير، ومقلق.
جذاب / لأن الجاذبية تحدث، عندما ننظر لجملة العنوان بشكل كلي نهائي، مثلما ننظر أو حتى نتخيل شكل سفينة من ورق، أو غرفة من ورق. الأمر يبدو هنا ذو صلة وثيقة بالفن، بالجمال، باللعب. وبالأفكار الغريبة المختلفة. للجاذبية إذن فعل تحفيز المخيلة لتصور عجيب.
مستفز / الاستفزاز يحرك غريزة السؤال والفهم والتحدي، والوقوف موقف الشك من صحة العرض، لاجتماع عناصر التضاد الظاهرة بين رقة الورق، وصلابة الأبراج، فإن تكن الأبراج في علوها تعانق العلياء وتتماهى مع السماء، فإن الأوراق إن شاءت التحليق فسوف تكون فاقدة للإرادة فهي تجسيد للأمثولة القائلة: ريشة في مهب الريح.. ريشة بخفة ورقة في مهب الريح، مما يرمز للايقين، وعدم التحكم في الحركة مع ضبابية المصير، بينما الأبراج راسية. لكن من يجمح بخياله قليلا، ثم يعتلي منصة برج شاهق ليجرب الشعور بالتواجد أعلى كل شيء، سوف يشعر أنه أشبه بورقة في مهب الريح، بل سيٌخيل إليه أن البرج نفسه يتحرك محلقا في العلياء.
فعل الاستفزاز هنا، مكاشفة لإمكانات الذات وقدرتها على التحكم أو التماهي مع وجودها في الوجود. وأنت تقلب في ذهنك أشكال التشابك والتشابه، بين الأبراج والورق، لا بد أن تخطر لك الطائرة الورقية، ثم تتذكر أن بإمكانك التحكم فيها بخيط تسحبه أو تمده وأنت تقف على الأرض. حينها سوف تشعر أنك قد تماهيت مع الكاتب، ثم تفكر أنه سعيد رضواني.
مشوق / لأن هذا الجذاب المستفز، مرتبط بنص سردي، من جنس الرواية، فثمة قصة حبكة، حدوثة، خرافة، حكاية، وهلم جرا مع شتى التوقعات. بخصوص عالم ما، فيه حركة وفيه حياة.
محير / إذ لا يمكنك أن تتخلص من حيرتك أمام أي واقعة أو شكل، أو حالة لبس، كالذي سيوقع حواسك فيه، سماعك أو قراءتك أو تخيلك شكل أبراج من ورق، وليتها كانت برجا واحدا، بل هي مجموعة أبراج، وكأننا بصدد توقع اكتشاف مدينة من الورق، فأي نوع من الحضارات هذه التي لم نقرأ ولم نسمع عنها من قبل، سوف يأخذنا إليها هذا الكتاب؟ لكي تجد الجواب، عليك أن تقرأني هذا ما ستهمس لك به الرواية من خلال العنوان. ثم تكبر حيرتك، لأن هذا العنوان، لم يخاطبك بلغة لا تعرفها، كلمة أبراج عربية فصيحة متداولة، وكذلك الورق، لكن ما لا تعرفه قطعا، هو سبب الجمع بينهما، وكيف يمكن لأحدهما أن يتشاطر مساحة المعنى مع الآخر.
مثير / مثير لأنك ستتذكر وأنت تقرأه، كيف شعرت ذات مرة في مكان ما، في زمان ما، بتلك الإثارة الخالصة، جامحة لذيذة شهية، فيها الدهشة ونبوغ القرب، وعبقرية الالتحام، مع الطبيعة ومع الحلم، ومع الفكرة لحظة نشوئها في عقلك، في قلب مخيلة تورق أغصانها إثارة، ثم تشعر بالحماس، ثم تجتاحك نيران العشق، ولكي لا تتخلى عن الأبراج الورقية وتتركها تحترق في نار افتراض، لا جدوى منها ولا منفعة، سوف تقرأ النص بحكم استجابتك الفطرية لكل ما هو مثير.
مقلق / من جمال وجود القلق في حياتنا، شعورنا الدائم أن ثمة شيء رائع قد فاتنا الحصول أو الاطلاع عليه، تجريبه أو إدراكه، ذلك القلق الذي يختلف تماما مع الطمأنينة، بل يعتبرها جمودا، وإفلاسا ذاتيا، وفراغا روحيا، وموت مخيلة. لذلك حدثنا الله عن الجنة، ولم يظهرها لنا، محفزا رغبتنا فيها عبر استخدام المخيلة. مؤكدا أنه لا يفوز بها إلا ذو حظ عظيم، الفوز عظيم، لكن خوف الفشل، دون الفوز أمر مقلق، والقلق عكس البلادة عكس السذاجة.
كل العالم يتبرأ من لعنة البلادة، حتى الرجل البدائي الصياد، كان يطارد الشمس بغاية اصطيادها، بينما خوفه وقلقه دفعاه لاكتشاف النار والأنهار والبحار، ولأن القلق نوعان، قلق يحولك إلى مهووس بغاية حتى تبلغها، وقلق يمنعك من الطمأنينة كلما وخزتك حواسك وضميرك، واتهمتك بالخمول والكسل وفتور الهمة بل والعجز واليأس أحيانا، بينما خلاصك يتجلى في خوض مغامرة الاكتشاف، ومع عنوان أبراج من ورق، ليست هناك وسيلة متاحة للاكتشاف، إلا القراءة.
4 - الشكل الهندسي للنص :
البنية الظاهرة لرواية ( أبراج من ورق )
رواية أبراج من ورق، مقسمة شكلا إلى قسمين:
الجزء الأول ، تحت عنوان :
( أدراج البرج الأول )
من الصفحة 11 إلى الصفحة 118
الجزء الثاني ، تحت عنوان :
( سلم البرج الثاني )
من الصفحة 121 إلى الصفحة 208.
عبر هذا التقسيم، الأكبر نلاحظ أن الجزء الأول والجزء الثاني من الرواية، يشكلان حالة من التماثل والتناظر والذي يعتبر من أهم تقنيات الكتابة عند المبدع سعيد رضواني. هذا التناظر سوف يبدو واضحا عند القراءة، فهو يجسد حالة استثنائية من التضاد والتكامل، الجزء الأول يدور في فصل الصيف، والجزء الثاني في فصل الشتاء، عند نهاية الجزء الأول، نكون قد بلغنا ذروة التصاعد الدرامي، بينما لأول مرة لن نمارس فعل النزول بدءا من الجزء الثاني، إنما سيبدو لنا أننا نعود إلى نقطة البدئ الأولى، لكنها أيضا تتمة، لما سبق، وهي امتداد طبيعي لما سلف من وقائع .
ثم ننتقل إلى تقسيم الرواية عبر فصول صغيرة، فنلاحظ، أن كل فصل من فصول الجزء الأول من الرواية، له نظيره الذي يقابله من فصول الجزء الثاني، فنعلم أننا نقرأ رواية ذات شكل هندسي، وتصميم مسبق متقن، بلغ حد التكامل والدهشة، خاصة أن أول كلمة تطالعنا في الكثير من فصول الجزء الأول، هي نفس الكلمة التي سنقرأها في نظيره من الجزء الثاني، وفي بعضها تناظر في الكثير من الجمل، بل وحتى بعض أعداد الفقرات.
أما المضامين، فهي تجسيد لفعل المرايا، حيث ترى في النص الثاني تكاملا مع نظيره النص الأول، فهو إما صدى له، أو تكملة للتصاعد أو التسلسل الدرامي، وتطور لذلك الحدث السابق، بل يحدث وبشكل لم يسبق لي شخصيا أن وقفت عليه في أي رواية عربية سابقة. ولست أزعم أنني مطلع على كل الروايات العربية. قلت: يحدث أن الوقائع التي نجدها في الفصل ونظيره، تمثل تجسيدا تاما، لفرضية التكامل الموضوعي والشكلاني، واللغوي، لكن مع إمكانية تأويل لا نهائية. وكل ذلك دون أن يربك هذا التماثل سير الأحداث ولا تطور الحبكة، بل تشعر فعلا أن الرواية تسير نحو الأمام، بتناغم فريد، وكأننا بصدد قراءة حركة كونية، تتعلق بمسار وتحرك كواكب في مجرة، أو مشهد تصورنا لنظرية نسبية آينشتاين مجسدة في صورة رجل يتحرك نحو الأمام أو نحو الخلف، داخل قطار يتحرك، أو أننا نرى رجلين يلعبان كرة الطاولة داخل قطار يتحرك بسرعة، وكيف تنتقل الكرة من اتجاه إلى ضده، في تزامن مع حركة القطار الخارجية، مما يؤكد دون شك أن رواية أبراج من ورق، تعتمد على أسس علمية، ورياضية هندسية، تحاكي عالم الذرة والكوانتوم، دون أن تغفل أنها بصدد الحديث عن بشر حقيقين، يعيشون بشكل طبيعي، فالعجيب فيما قام به هذا المبدع السارد المختلف عن غيره، أنه لم يلجأ لتطبيق نظرياته في السرد، ومرجعياته العلمية، لأحداث عجائبية فانتازية، بل على العكس كل الأحداث واقعية، يمكنها أن تحدث لنا جميعا على أرض الواقع المعاش، مما يؤكد حقيقة ارتباط العلم بالأدب، وارتباطهما الوثيق معا بالحياة الواقعية. أما فيما يخص التخييل والذي هو جزء أساسي في الجنس الروائي عموما، فسوف يبدو سلطان المخيلة مهيمنا على شكل الكتابة، وليس على الوقائع، مما يدفعنا لاستخلاص عجيب، كيف استطاع هذا الكاتب، أن يمارس التخييل شكلا، دون أن يمس الواقع جوهرا؟ شخصيا أعتقد أن رهانا كهذا من الصعب جدا، أن يكسبه إلا الذي فكر فيه أول مرة، ثم قام بإنجازه على الورق. هذا وقد فكرت مرارا إن كانت رواية كهذه يمكن رؤيتها من خلال عين السينمائي، ما دام أحد أهم شخوصها، مخرجا سينمائيا، فيتم عرضها مثل فيلمي ( خيال رخيص pulp fiction ) للمخرج كوينتن تارانتينو، وفيلم ( عقيدة tenet )
للمخرج كريستوفر نولان، وقد خطر لي هذا لأني لم أجد ما يقابل سعيد رضواني إلا هذا النوع من المخرجين، فخلصت لنتيجة مفادها، أن رواية أبراج من ورق، رواية عن الكتابة، مع أنها تضمنت مشاهد سينمائية، ووصفا لشخص المخرج قبل ظهوره الفعلي في النص، عن طريق عدسة تصوير، إلا أنه يبدو أنها رواية خلقت من الكتابة، ولسوف تخلدان بعضهما البعض. ستعيش الكتابة في قلب هذه الرواية، وتعيش هذه الرواية في قلب الكتابة. بينما تبقى فرضية السينما محتملة في حال تصادفها مع موهبة فذة من صناع الفن السابع.
وقد قام الكاتب سعيد رضواني، بتوزبع رواية أبراج من ورق، عبر فصول من شأن قراءتها على شكل عناوين، أن تعطي فكرة واضحة عن شكل الرواية، ودلالات تقابلاتها البصرية، واللغوية، مع بعض تلميحات حول المضمون، استنادا لفكرة ونظرية قراءة وتفسير العناوين.
عدد فصول الرواية 54 فصلا ، مقسمة ببين الجزء الأول ونظيره الثاني إلى 27 فصل في كل جزء .
1 - 1 نسيج أشعة الشمس
1 - 2 لحاف من صقيع
2 - 1 فرار من هواجس النفس
2 - 2 ملاحقة هواجس الكتابة
3 - 1 ثمة جذوع وفروع
3 - 2 ثمة حروف وكلمات
4 - 1 ويغمره البحر
4 - 2 ويغمره البخار
5 - 1 مدينة الأموات
5 - 2 مستوطنة الأموات
6 - 1 حروف القرية
6 - 2 كلمات المدينة
7 - 1 تلال القميص
7 - 2 أبراج الجاكيت
8 - 1 منازل الموتى
8 - 2 توابيت الأحياء
9 - 1 أزقة الكتب
9 - 2 دروب السرد
10 - 1 نقار الأحلام
10 - 2 زعيق منبهات الأحلام
11 - 1 خشونة الشارب الكث
11 - 2 ليونة الشارب الكث
12 - 1 مواجهة الذات
12 - 2 مكاشفة الذات
13 - 1 ضد الحر
13 - 2 ضد الصقيع
14 - 1 سم الطبيعة
14 - 2 ترياق الطبيعة
15 - 1 البعاد القريب
15 - 2 القرب البعيد
16 - 1 النمو والتطور
16 - 2 الانكماش والتقهقر
17 - 1 أخضر الحقول
17 - 2 أزرق المحيط
18 - 1 أحاديث الحصاد والأدب
18 - 2 أحاديث السكارى والمعرفة
19 - 1 قدر الصيف
19 - 2 قدر الشتاء
20 - 1 وخز الشعور بالذنب
20 - 2 مداعبة الارتياح
21 - 1 إشارات تحذير
21 - 2 إشارات مطمئنة
22 - 1 تواطؤ الطبيعة
22 - 2 تواطؤ السرد
23 - 1 قاع القبو
23 - 2 أعلى السطح
24 - 1 نداء الحقول
24 - 2 نداء اللغة
25 - 1 الزمن المؤجل
25 - 2 الزمن الموعود
26 - 1 قلعة من حجر
26 - 2 قلعة من سرد
27 - 1 امتداد السطور
27 - 2 امتداد الطريق
* الاحتمالات المتحركة:
1 - الاستهلال الروائي:
( اتعكاس المرآة )
لا أذكر / نبدأ الرواية، مع سارد لا يتذكر أهم خبر سردي، مع أنه متعلق به / فثمة لبس وتداخل بينه وبين شخص آخر، مؤكدا رغم ذلك حتمية مروره من نفس الطريق، هو والشخص الآخر. مؤكدا حتمية الفعل، من خلال قوله : حتما داست قدما أحد منا / الزمن السردي هنا، والذي هو زمن ماضي، نعرفه كذلك من خلال كلمة ( كان ) سوف نشك أنه الزمن الأصح للخبر السردي، وكأن الغاية من ذكره فقط أن يستخدم وسيلة، لوصف الطريق، في ذلك الوقت الحار ( فصل الصيف )، والذي لا بد أنه تكرر هذا المضي منه مرارا حتى صعب فك الالتباس بين زمن وزمن مقابل، مع تشابه الشخصين، شخص السارد وشبيهه، مما يضعنا وجها لوجه أمام تمويه على الزمن الرئيسي، الذي يعادل مفهوم الزمن المواكب لفعل التطور السردي، لكنه أيضا زمن مفتوح على أزمنة أخرى.
الأم / أمه أو أمي / الأم هنا اثنتان، وكلاهما ضمن الموتى، ومع ذلك ينبهنا السارد، أن صوت أمه أو أم الآخر، مخنوق بالتراب، بالكاد يصل إلى أذنيه أو أذن الشبيه، وكأن من الطبيعي أو المفروض، أن يسمع الأحياء أصوات الموتى.
ثم يضيف أن شفاه الأم جافة / إشارة إلى تحول الانسان الذي هو مخلوق من طين، إلى طين يابس رجوعا لأصله، إحالة على مرحلة تيبس لحم الميت قبل تحلله في التراب، بينما لم يتم التفريق في هذه الفقرة بين أم السارد، وأم الشخص الآخر، فكأنهما أم واحدة، ولذلك ما يبرره، بمعنى ما دامت نفس الأوصاف تنطبق عليهما، يجوز اختصارهما في واحدة، فذلك لن يشكل فرقا، وهو أمر أراد به الكاتب التلميح إلى وجود صلة قرابة شديدة تربط بين السارد ونظيره، الذي يماثله في الفعل والصفات، حتى أن أم كل واحد من الشخصيات الأربعة، يمكنه أن يذوب في الآخر، أو يصبحان معا : رجلا واحدا/ أمرأة واحدة.
بهذه الجمل الغرائبية، يفتتح سعيد رضواني روايته، أبراج من ورق، جملا تقدم لك صورة سردية تفيد بوجود حركة سعي فوق طريق ساخنة، في يوم صيفي حار، لكنها لا تمنحك يقينا بشأن هوية الفاعل، فهما إثنان، وليس واحد، كما أن الكلام قادم عن ضمير متكلم، يضطرك لاعتماد رواية الناطق منهما، وليس الصامت، لأنه الأكثر موثوقية، فهو المتكلم، وعنه سوف تتلقى الخبر السردي، بينما يشبه الآخر انعكاسا على مرآة، وهي مرآة شاملة معادلة لما يماثلها، لأنها تعكس زمن السرد أيضا، لكنها تحمل معها إحداثيات زمن آخر مشابه، وهذا الأسلوب طبعا، يحلينا على المرايا، حين يشك الواحد منا أحيانا أينا المقلد؟ أنا، أم ذلك الذي يظهر لي على المرآة. لكن دون أن ننسى أننا نعلم علم اليقين أننا المتحكمون في الفعل، وأن لنا تفكيرنا المستقل، وقدرتنا الخالصة على الذهاب بعيدا عن المرآة، أو حتى عدم النظر إليها. لكن في حال التواطؤ مع تلك الفكرة يبدو الأمر دائما أشبه بممارسة لعبة، مسلية ومخيفة في نفس الوقت، وأن يتخذ الفعل شكل اللعب ففي ذلك امتاع وتحفيز للمخيلة، مما ينتج عنه جو لطيف محبب، يغري بالمتابعة، والظاهر أن هذا هو المقصود لدى الكاتب سعيد رضواني، الذي منح الكتابة والسرد والرواية، سمة اللعب المخيف، الذي يمارسه الواحد منا، مع نفسه، وذاك أن جل الألعاب الرياضية والذهنية، تعتمد على لاعبين يخوضان فكرة التحدي، مع اختلاف ظاهر، لأن اللعب هنا، يشبه خوض غمار لعبة تحدي لطيفة مع نفسك، ولكي تلاعب نفسك ففي ذلك مدعاة للإحساس بالرهبة، أولا لأنك ستدخل مرحلة الشك في سلامتك العقلية، ولا شيء يخيف العقل أكثر من عاقبة جنونه، وأيضا لأن تحديا للنفس، من شأنه أن يضعك مباشرة أمام ذاك الكائن الذي يوجد فيك تخافه وتخفيه، ألا وهو أناتك السفلى، التي أطلق عليها منظر علم النفس الأكبر : "سيجموند فرويد " اسم ( الهو ) ، ليبقى السؤال بعد ذلك أيهما اللاعب، السارد أو نظيره؟ أم أنها لعبة في مجملها، تضع الكاتب في مواجهة مع نده أو نظيره القارئ. ولأن لكل منا حدوده واستقلاليته، مهما كان مقدار التشابه والتماهي والتداخل، فقد يحدث أن تنتقل اللعبة من يد الكاتب إلى يد القارئ، ليعيش القارئ تجربته الخاصة على أعين الكاتب، الذي يتحول حينها إلى ما يشبه ساحرا، يستمتع بالتفرج على حيرة القارئ وهو مقبل على تحديات القراءة، هنا نرى أن النص يحقق بكل حيله وألاعيبه هذه، سمة اللطف والرهبة في نفس الوقت، والحيرة والتحدي، مما يؤكد أننا نقرأ وبشكل غير مسبوق لكاتب عربي مجدد خلاق، نجح وبمهارة فائقة في الاستئثار باهتمام القارئ، الذي لن يعرف كيف يغادر هذه الرواية قبل ان يبلغ منها آخر صفحة وآخر جملة، ثم يتنفس الصعداء عند وقوفه على نقطة نهاية. مما يجيز لنا شرعية القول، بأن الكاتب سعيد رضواني، نجح تماما في اجتياز أهم رهان روائي، وذلك عبر شد انتباه القارئ، من خلال براعة الاستهلال الروائي المختلف والمتقن.
وحتى لا نضيع أمام كل هذه الملابسات، علينا أن نضع ملخصا صغيرا لما استنتجناه، فنقول: من خلال الاستهلال الروائي، تبين أن زمن السرد الفعلي المباشر يشير إلى زمن ماضي قريب، لكن الشخصية المحورية الأولى، والتي هي أيضا الساردة، تتماهى مع شخصية محورية ثانية صامتة، في زمن سردي ماضي سابق، لكن تشابه الفعل فعل السير وتشابه الوقت ( صيفا ) وتشابه صفات الشخصيتين وعلاقتهما بالأم، يجعلنا نرجح أننا بصدد الاستعلام عن شخصيتين تجمعهما قرابة خاصة، وتفرق بينهما ظروف قاهرة، وأن الفعل السردي هو ما يقرب بينهما، ويمنحهما لحظة القراءة، مسرحا مشتركا ليتواجدا فيه معا، والغاية من ذلك رغبة السارد أن يحقق نوعا من التكافؤ بينه وبين هذا الآخر، فلا يطغى عليه بنرجسية ولا يهمشه بأفضلية، فكأن الغاية من لعبة الوقوف أمام المرايا، ذات أغراض أربعة نوردها كالآتي : الغرض الأول : اكتشاف الذات. الغرض الثاني: اكتشاف الآخر، الغرض الثالث: اكتشاف الذات من خلال الآخر، الغرض الرابع اكتشاف الآخر من خلال الذات، وكلمة اكتشاف هذه، ملزمة لتحديد نوعية هذا السرد التجريبي، فهو سرد تفاعلي، يوهم القارئ أن السارد نفسه، لا زال يجهل الكثير من الحقائق عن نص مرويته، بينما هو يعلم بحكم خبرة القراءة، أن نصا من هذا النوع، خاضع تماما لخطة كتابة مسبقة، تمنح الكاتب صفة المدهش، والمتلقي صفة المندهش، مما يخلف انطباعا عذبا، وتكاملا فريدا، يمنح القارئ فرصة المشاركة التفاعلية في تطور الحبكة والسرد.
ولهذا يجوز لنا الحكم، أن رواية أبراج من ورق، قد حققت في مستهلها، مكتسبا عظيما، يضمن لها توفر عناصر هامة تجعل القارئ متمسكا بها، لما لها من جاذبية، وما تعد به من إمتاع وما تقدمه من تحفيز وتحدي وتشويق. هكذا وبعد المزيد من الغوص في هذا المتن الروائي المختلف، سوف نكتشف أن هذه المقاصد وحدها لم تكن الدافع وراء إقدام الكاتب سعيد رضواني على خوض غمار رواية من صنف
تعليقات
إرسال تعليق