القائمة الرئيسية

الصفحات

دفاعا عن العلوم الانسانية والاجتماعية

كتب:الباحث الاجتماعي "بوخالفة كريم _الجزائر
حققت علوم الانسان والمجتمع طفرة معرفية كبرى في تاريخ المعرفة الإنسانية المعاصرة، ولقد كان ذلك نتيجة منطقية للثورات المعرفية السابقة والمتتالية التي عرفتها الحضارة الغربية، بداية بالثورة الدينية في القرن الخامس عشر من خلال الإصلاح الديني، والثورة العلمية الصناعية حيث تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة بشكل غير مسبوق، باعتماد النظرة الديكارتية القائمة على مبدأ مفاده: أن تعرف معناه أن تتأهب أكثر للسيطرة والتحكم في جميع الظواهر والمادية منها على الخصوص، وتزامن ذلك مع الثورات السياسية خاصة منها الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وغيرها من الثورات التي كرست منظومة حقوق الانسان وحررت العقل الإنساني من الوصايات المختلفة، وعجلت ببناء الدولة القومية الحديثة، وبلورة قيم المواطنة والحريات،إن العلوم الانسانية والاجتماعية الغربية جاءت كثورة فكرية او كردة فعل للأزمة السياسية الاجتماعية التي خلقها رجال الحكم والكنيسة هناك؛ لذا كانت هذه العلوم علمانية النشأة بمبدأ فصل " الدين عن الدولة" وبعيدة عن القيم الدينية والأخلاقية، كما أنها نشأت بمحاكاة تامة للعلوم الطبيعية واقامت القطيعة الابستمولوجية مع الفكر السطحي الساذج والافكار المسبقة وكذلك مع التفسير الغير علمي كالتفسير الميتافيزيقي والاهوتي ، وقد أدى ذلك إلى تجزئة الظواهر الاجتماعية، ثم تحولت العلوم الاجتماعية الغربية إلى علوم قومية تخدم المصالح القومية لأصحابها.
ونتيجة لكل هذه التحولات الجذرية في الثقافة والمجتمع الغربي، ظهرت طفرة معرفية جديدة وهي الثورة في علوم الانسان والمجتمع والتي ساهمت في بناء معرفة جديدة بالإنسان والمجتمع متحررة من التصورات غير العلمية باعتماد أدوات جديدة في البحث العلمي قائمة بالدرجة الأولى على الوصف والتفسير والتنبؤ وملتزمة بالموضوعية والحياد، وهي العلوم أيضا التي واصلت تدشين مسلسل الإذلالات التي عرفها الانسان الحديث بداية بالإذلال الفلكي الكوبرنيكي نسبة إلى “نيكولاس كوبرنيكوس 1473-1543) والذي قلب التصور الأرسطي الذي هيمن على الوعي البشري لقرون طويلة رأسا على عقب، وذلك من خلال إثباته لنظرية مركزية الشمس بدل مركزية الأرض، وتلا ذلك الإذلال البيولوجي الذي قال به “تشارلز داروين 1809-1882 والذي ذهب من خلاله إلى القول بأن الانسان ليس أحسن من الحيوان بل انه حيوان تطور عبر التاريخ ليستقر على الصورة التي هو عليها اليوم، وأن الكائنات الحية عبر الزمان تنحدر من أسلاف مشتركة وتخضع لمبدأ واحد وهو الانتخاب الطبيعي، وهي الفكرة التي تتعارض مع ما تقره الأديان التي تقول بالتكريم الإلهي للإنسان وأفضلية الانسان وكرامته على باقي الحيوانات الأخرى، وجاء “سيغموند فرويد (1856-1939 ) ليضيف الإذلال السيكولوجي عندما أعاد الاعتبار لعالم اللاوعي وأن اللاشعور يشكل الأصل في النفس البشرية وأن الوعي مثله مثل الجزء الظاهر من الجبل الجليدي أما الجزء الأعظم المغمور منه فيشكل عالم اللاشعور.

ويحظى اليوم درس علوم الانسان والمجتمع في المجتمعات الغربية بأهمية كبيرة لفهم سيرورة الظواهر الإنسانية والاجتماعية ومحاولة تعقلها والتحكم فيها وأكثر من ذلك التنبؤ بالتحولات الاجتماعية ومآلاتها في المستقبل، كما لم تعد مجالات تلك العلوم منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض بل تعمل وفق منهجية جديدة وهي منهجية تداخل الاختصاصات وتكاملها، فالسوسيولوجيا وعلم النفس وعلم التاريخ والانتروبولوجيا والاقتصاد والسياسة والفلسفة والآداب واللغات والفنون، كلها تخصصات لها غرض واحد وهو بناء معرفة علمية صحيحة حول الانسان والمجتمع وحول أنماط التفكير وأنماط العيش الإنسانية في بعدها الفردي وفي بعدها الجماعي.

وعلى النقيض من ذلك تعاني علوم الانسان والمجتمع من تهميش واستخفاف كبيرين في مجتمعاتنا العربية، فهي في المتخيل الاجتماعي العام مضيعة للوقت ولم ترق بعد إلى مصاف العلوم ولا ترجى منها فائدة، وأكثر من ذلك فهي مجرد كلام لا طائل منه، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالموقف السياسي الرسمي من هذه العلوم، فكانت دائما هناك سيطرة السياسي على العلمي حيث كانت العلوم الانسانية و الاجتماعية منذ بدايتها هدفا لسيطرة السلطة السياسية التي سعت تحت شعار تاسيس علوم انسانية واجتماعية ملتزمة بقضايا المجتمع عموما الى بسط نفوذها على هذع الفروع من المعرفة في الواقع كان هذا جزء من مخطط عام يرمي الى السيطرة على الجامعة باعتبارها مؤسسة لإنتاج المعرفة ونشرها فالمعرفة قوة وخاصة المعرفة الاجتماعية والانسانية فاذا كانت العلوم الطبيعية اداة فعالة للسيطرة على الطبيعة، فان فالعلوم الاجتماعية والانسانية اداة فعالة في تحقيق السيطرة على الانسان والمجتمع وٌمن هذا فلا غرابة ان تسعى السلطة السياسية ان تسيطر على المؤسسات المنتجة للمعرفة لأن هذه السيطرة تحقق ادماج هذه المؤسسات في مشروع النظام القائم وجعلها ادوات خادمة لكسب الشرعية، وايضا كثيرا ما تميل السلط والحكومات في مجتمعاتنا عموما إلى سلب هذه التخصصات كل قيمة، لأن تلك السلط والحكومات هي سلط ريعية وغير شرعية وتفتقر لأبسط المبررات لوجودها ما عدا الثروة والقوة، وفي أحسن الأحوال هي سجينة النظرة التقنوية والعلموية للعالم، بمعنى أنها تعاني من شراسة النظرة التقنية التي تراهن على الحلول التقنية في انجاز المشروع التنموي والنهوض بالإنسان العربي، حيث تختصر مشكلات المواطن العربي في السكن والعمل والدخل المادي، على حساب مشكلات لا تقل أهمية وهي مشكلات الوعي والفكر والثقافة والأخلاق، كما أن علوم الانسان و المجتمع هي موضع ريب و انزعاج عند النخب السياسية العربية بما تشكله من وعي سياسي و رؤية نقدية فكرية و ثقافية في المجتمع و هو الوعي الذي يأخذ شكل المقاومة و الرفض للكثير من السياسات الرسمية العرجاء التي تخدم جماعات المصالح و عصب الحكم و تندرج أعمالها في أجندات القوى العالمية على حساب مصالح الشعب و الأمة ، والدول التوتاليتارية في عمومها لا تشجع على التنمية الثقافية و على تراكم الوعي النقدي الصحيح لمواجهة التحديات المختلفة التي تعانيها الشعوب . إن الثقافة و الوعي الثقافي الذي تصنعه علوم الانسان و المجتمع في ما تقترحه من توضيحات و تفسيرات للظواهر الاجتماعية و الإنسانية ، و ما تفضحه من جوانب متعددة في وضاعة الأفكار و ما تشهر به من أوهام تكبل عقل و إرادة الانسان ، تجعلها شيئا غير مرغوب فيه على الإطلاق ، و تذكر بمقولة وزير الدعاية الألمانية في حكومة هتلر “جوزيف غوبلز ” المعبرة عن موقفه من الثقافة ” كلما سمعت كلمة ” ثقافة ” تحسست مسدسي ” .وحتى لا تظهر تلك السلط المتخلفة و غير الشرعية في صورة المعادية للثقافة فإنها تميل إلى إضفاء الطابع الفولكلوري و المناسباتي على حساب كل عمل ثقافي جاد .

تعليقات