حلقة اليوم: الزائر في الثلث الأخير
في ليلة من ليالي رمضان عندما كان القمر ينثر ضوءه الخافت على القرية الصغيرة كان الجميع قد انصرفوا إلى فراشهم بعد يوم طويل من الصيام وحدها أوقات السحر كانت تنبض بهدوء غريب يتخلله صوت المؤذن وهو يصدح بالتسبيح قبل أذان الفجر
في هذه الليالي الهادئة ظهر رجل مسن مجهول الهوية على أطراف القرية كان شكله بسيطا يرتدي ثوبا أبيض نظيفا وله لحية بيضاء قصيرة تضفي عليه ملامح الوقار ظهر فجأة وكأنه انبثق من العدم لم يكن هناك ما يدل على أصله أو وجهته
في الليلة الأولى ظهر الرجل في المسجد الصغير وسط القرية كان المسجد شبه خال إلا من بضعة مصلين كبار في السن جلس في الزاوية بهدوء حتى انتهت الصلاة ثم وقف وتحدث بصوت عميق وحاني
يا أهل القرية هل تسمعون أنين الأرض إنها تشتاق لمن يذكر الله في هذا الوقت المبارك لقد مر زمن طويل منذ أن انشغل الناس عن ربهم
كانت كلماته كالصاعقة على قلوب الحاضرين وكأنها توقظ أرواحهم التي اعتادت على الغفلة
في الليالي التالية بدأ الرجل يظهر بانتظام في المسجد وقت السحر لم يكن يصلي معهم فقط بل كان يقص حكايات أشبه بالأساطير لكنها كانت تحمل معاني عميقة
قص عليهم حكاية تاجر ظلم عاملا فقيرا فبات يرى في أحلامه جبالا تسقط عليه من وزر ذلك الظلم حتى تصدق وأعاد الحقوق
حكى عن شاب عاق لوالديه عاش حياة شقاء حتى تذكر والدته فدعاها واسترضاها وكان دعاؤها له بداية النعيم في الدنيا والآخرة
كانت هذه الحكايات تحرك القلوب الجامدة فتذرف العيون الدموع وكأن كل مستمع يجد نفسه داخل القصة
لم يمر أسبوع حتى تغيرت القرية بأكملها
الشباب الذين اعتادوا السهر على اللهو بدؤوا يأتون للمسجد وجلسوا حول الرجل ليستمعوا إليه
التجار في السوق بدأوا يتصدقون على الفقراء ويتحدثون عن البركة التي عادت إلى أرزاقهم
النساء أصبحن يستيقظن قبل الفجر ليقمن الليل ويدعين لأطفالهن وأزواجهن بالهداية
كان الزائر يحدثهم عن فضل الثلث الأخير من الليل عن تلك اللحظة التي ينزل فيها الله برحمته ويقول
هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له
رغم كل الخير الذي جاء مع الرجل لم يتوقف فضول أهل القرية من هو من أين جاء ولماذا اختار قريتهم
سألوا إمام المسجد لكنه أجاب بأنه لم يره من قبل ولا يعرف شيئا عنه سوى أنه يظهر كل ليلة ويغيب مع أذان الفجر
قرر بعض الشباب مراقبته لكن في كل مرة يغادر المسجد قبل الفجر يختفي في ظلام الليل وكأن الأرض تبتلعه
في ليلة السابع والعشرين من رمضان وهي الليلة التي يرجوها الجميع لعلها تكون ليلة القدر جلس الرجل في منتصف المسجد والناس حوله كأنهم أطفال أمام معلمهم
قال لهم
أيها الأحبة هل تدرون ما أثقل ما يمكن أن يحمل الإنسان على كتفيه إنها الذنوب التي لم يتب عنها إن الله يغفر لمن يطرق بابه فلا تجعلوا أعماركم تفنى في الغفلة
ثم قص عليهم حكاية عن رجل عاش في ظلال المعاصي ولكنه في لحظة صدق مع الله ألقى بنفسه على سجادة الصلاة وبكى حتى ابتلت الأرض وكانت تلك الليلة مفتاح جنته
كانت تلك آخر كلماته إذ اختفى بعدها ولم ير مجددا
بحث عنه أهل القرية كثيرا لكنهم لم يجدوا له أثرا تركهم مع ذكرياته ومع حكاياته التي أصبحت تروى جيلا بعد جيل
ومنذ ذلك الحين صار السحر في تلك القرية وقتا مختلفا امتلأت المساجد بالمصلين واستيقظت البيوت على صوت التسبيح والدعاء
كان ذلك الرجل الزائر بمثابة رسالة سماوية أرسلها الله لتوقظ القلوب وتعيد الناس إلى طريقه في الوقت الذي تنفتح فيه أبواب السماء وفي اللحظة التي لا يرد فيها الله من يناديه
هكذا أصبح الزائر الذي لم يعرف اسمه رمزا للنور الذي يأتي في الظلام ليعيد الأرواح إلى خالقها
تعليقات
إرسال تعليق