✓كتب /الباحث الاجتماعي: بوخالفة كريم _الجزائر.
تحذر عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز، في كتابها الأخير «نهاية الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبية»، من أن التفسخ الأخلاقي الراهن في الغرب قضى على أي مشاعر عاطفية ممكنة، وحطم السردية التقليدية للحب، المتعارف عليه لدى شعوب العالم كافة، بوصفه علاقة خطية تتكوّن وتتطور في مدى زمني. فتحوّل الحب بذلك من رفقة روحية مستقرة في شكل أسرة، إلى «تطبيقات»، الهدف منها هو تحقيق المتعة فحسب. الكتاب، الصادر من جامعة أكسفورد البريطانية، هو بمنزلة عريضة دعوى لإجراء «محاكمة عاطفية» للغرب، إن صح التعبير، بتهمة ارتكاب جريمة كبرى في حق الإنسانية. حيث تحطمت المشاعر في المجتمعات الغربية على صخرة الحرية الشخصية، وبات مفهوم العلاقات نفسها مهددًا بفلسفة «الحظر» على وسائل التواصل الإلكتروني المختلفة، وهو ما يعني إطلاق رصاصة الرحمة على المشاعر في أي لحظة!
ترى المؤلفة أن «دراسة الحب» في علم الاجتماع مسألة مركزية، وليست هامشية على الإطلاق كما قد يبدو لبعض الباحثين، بالنسبة لبحث جوهر الحداثة الغربية، وأنه منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين، شهدت المجتمعات الحداثية تطرفًا في تطبيق مفهومي «الحرية والمساواة» داخل الروابط العاطفية، فكانت المحصلة هي وقوع مأساة «الحب في زمن العولمة». مشيرة إلى أن الناس في المجتمعات الحديثة تبحث في علاقات الحب الرومانسي عن تميّزها، وأن حالة الحب هذه قد تساعد الإنسان الغربي المعاصر على تحمّل واقعه البائس. وتعيب الباحثة على علماء الاجتماع المعاصرين، غياب أي قراءة جدية من منظور علمي، تستهدف اكتشاف دور المشاعر في عالمنا اليوم، وهي المشاعر التي لم تعد قابلة للترجمة في عالم حداثي، إلا ضمن سرديات نمطية موحدة، شخصتها المؤلفة في كتاب سابق لها بعنوان «حميميات باردة: تشكيل الرأسمالية العاطفية».
عابرون في علاقات عابرة
تقول «إيلوز» في كتابها « The End of Love: A Sociology of Negative Relations»: إن مظاهر الرأسمالية الاستهلاكية المهيمنة على العقول في المجتمعات الغربية الراهنة، جعلت معظم الناس ينظرون إلى أنفسهم، وإلى الجنس الآخر عامة، على أساس أنهم، مثل أي شيء آخر من حولهم، مجرد «سلع» في سوق. سلع تفقد قيمتها مع مرور الوقت، ويجب استبدالها بأخرى جديدة كل مدة، بمعنى أن العلاقات الأصيلة في النفس البشرية باتت علائق عابرة، تقوم على مبدأ تحقيق المتعة المتبادلة بشكل آلي، لا روح ولا عاطفة فيها، على الإطلاق.
العلاقات الوثيقة، حسب الكاتبة، أصبحت «محددة بشكل متزايد من خلال النماذج الاقتصادية والسياسية للمساومة والتبادل والإنصاف». وهي تسمي هذه العملية المزدوجة التي يجري من خلالها تعريف العلاقات العاطفية والاقتصادية وتشكيلها، بـ«الرأسمالية العاطفية».
وترى المؤلفة أن التفسخ الأخلاقي السائد في المجتمعات الغربية حاليًّا، حتى في مجتمعات مرتبطة معها برباط العولمة، مثل بعض دول شرق آسيا، هو المتهم الأول بقتل الطقوس الاجتماعية المتوارثة، ومن بينها صفة التودد بين الرجل والمرأة، والتعويل على الفطرة السليمة، وتطبيق مبدأ الشفافية العاطفية، مع استبدالها بضغطة زر، تُفيد «الموافقة»، بلغة التواصل الاجتماعي العرجاء!
وَفْق الكاتبة، فقد «أصبحت المرغوبية في أيامنا معيارًا حاسمًا لاختيار الشريك العاطفي. وذلك ليس عن محض رغبة شخصية في المقام الأول، بل ضمن التضخم الهائل الذي شهده المجال الجسدي في الثقافة الاستهلاكية المعاصرة، وبمساهمة واسعة من القطاعات الاقتصادية في ترويج الجمال النسوي، وتأسيس ذات نسائية قائمة على الإثارة فقط، حيث يتم الربط بين المكياج ومستحضرات التجميل والإغواء والاستهلاك في مجال الدعاية والإعلان».
ولكن السؤال هو: إلى أي طريق يؤدي هذا النوع من العلاقات العابرة، التي يكون آخر شيء فيها هو الحب؟ تجيب المؤلفة أن صيغ التعارف الجديدة بين الجنسين، التي يُستبدَل فيها الإطار الاجتماعي للعلاقة باتصالات فردية، غالبًا ما تبدأ عبر وسائل التواصل، وفق معايير شكلية في الغالب أساسها الجاذبية الشخصية. وهو شيء غير إنساني بالمرة أقرب ما يكون إلى تسوّق المواد الاستهلاكية. ولذلك، قد تستمر العلاقة حينًا من الدهر، حتى يدخل أحد طرفيها في دورة عاطفية سريعة الدوران، بحكم توافر المعروض، فتكون النهاية الحتمية في معظم الأحيان هي الحظر، أو التجاهل على أقل تقدير.
وعلى الصعيد العاطفي، تكون نهاية الحب بمفهومه الغربي الحديث، مؤلمة بالنسبة للمرأة أكثر من الرجل، في تقدير الكاتبة؛ وذلك لكون النساء أكثر ميلًا من الرجال للدخول في علاقات قائمة على التقدير الشخصي، تتميّز بالاستمرارية الزمنية، لتحقيق رغبة الأمومة الغريزية، فضلًا عن أن جسد المرأة يتأثر بمرور الزمن أكثر من الرجل.
هذا على المستوى الفردي. أما على الصعيد الاجتماعي العام، فإن الحب الاستهلاكي في الغرب الآن ليس مجرد ظاهرة، وإنما هو مشكلة اجتماعية معقدة، تهدد الصحة العقلية للأفراد، وتؤثر سلبًا في قدرة المجتمعات على تحقيق الأمن النفسي والإشباع العاطفي لمواطنيها، وتنشر حالة من انعدام الثقة والاغتراب الوجودي، وهو ما يُعد خصمًا من أرصدة أي مجتمع بشري، ويحدّ من إمكانية تطوره الأخلاقي في نهاية المطاف.
كما تحذر عالمة الاجتماع الفرنسية من أن «تسليع العاطفة» في الدول الغربية، يؤدي إلى بروز ظواهر اجتماعية خطيرة، كنتيجة طبيعية لغياب الحب بمفهومه القديم، ومنها سيطرة العلاقات العرضية، وشيوع الانفصال العاطفي، والطلاق، وسيادة الشعور العام بالوَحْدة والعزلة، والعزوف عن الزواج، والعزوبية الدائمة للرجال والنساء، على السواء.
«التدوير السريع» للعاطفة
تبحث إيفا إيلوز، بهدف رسم صورة حية للحب قديمًا، في روايات جين أوستن وفيليب روث وجوستاف فلوبير، وتفتش فيها عن نماذج لعلاقات الرجال والنساء ضمن الإطار الاجتماعي، بدءًا بطرق التودد، وقواعد التقدّم، وصولًا إلى الارتباط الزوجي وطبيعة الالتزامات المفروضة على الطرفين. وتؤكد أن أوربا في عصور «ما قبل الحداثة»، شهدت تطورًا حميدًا في علاقات الاقتران، حصّن المرأة بمكانتها الاجتماعية وانتمائها الأسري، وجعل الحب موصولًا بقيم الثقة والتفاني، أكثر من كونه تعبيرًا عن رغبات وتفضيلات فردية.
وليست إخفاقات الحياة الخاصة بالنسبة للإنسان الغربي المعاصر نتاج ضعف نفسي، أو فشل فردي، وإنما هي ظاهرة لها صفة العمومية؛ لأن «تقلبات حياتنا العاطفية ومآسيها تتشكل وفقًا لترتيبات مؤسساتية؛ فالمشكلة في العلاقات الإنسانية المعاصرة لا تكمن في طفولة مختلّة، أو نقص في الوعي الذاتي للذات؛ وإنما مردّها إلى مجموعة من التوترات الاجتماعية والثقافية، والتناقضات التي اجتاحت هيكلة الأنفس والهويات الحديثة».
تقدم عالمة الاجتماع إيفا إيلوز تحليلًا عميقًا وجذريًا لتأثيرات الرأسمالية وثقافة الاستهلاك على العلاقات الشخصية والاجتماعية، وتوثق عبر هذا الكتاب تلك العملية التي من خلالها تتلاشى الروابط الاجتماعية والعاطفية، وتتبخر، وتذوب، وتنهار.
في ظل الانعطاف نحو الفردانية، وتراجع الدين، تحول الحب بحسب إيلوز إلى موضوع لإرضاء المصلحة الذاتية، وتحرر من طقوس التودد التي اعتمدت على مجموعة واضحة من القواعد التي تنظم العواطف والتفاعلات، وظهرت قيود جديدة رسخت حالة عميقة من عدم اليقين في مشاعر الحب. فبينما أتاحت حرية الاختيار القائمة الآن، حرية تحديد كيف تحب ومن تحب، فقد أتاحت أيضًا خيار تجنب الحب والخروج منه. فعلى عكس الارتباط فيما قبل الحداثة لم يعد من الممكن الآن إبرام العلاقات الحديثة أو تأسيسها على يقين بأن الحب سوف يستمر، وهو ما يخلق بدوره اليوم، حالة من الارتباك وانعدام الثقة والأمان الوجودي.
العلاقات الجنسية العرضية، والانفصال، والوحدة، والطلاق، والعزوبية. هي أعراض لما تسميه إيلوز بظاهرة “نهاية الحب”. بعد أن أدت الرأسمالية الاستهلاكية، إلى نظرة الناس إلى أنفسهم على أنهم سلع، تصبح أقل قيمة حتمًا بمرور الوقت ويجب استبدالها بأخرى جديدة. الأسوأ من ذلك، هو أن الرغبة الجنسية قد تم إعادة تعريفها وفق صيحات الموضة ومستحضرات التجميل، ووسائل الإعلام، وليس آخراً، المواد الإباحية التي حولت الرغبة إلى أداء مرئي. وأصبح عرض الأجساد، ولاسيما أجساد النساء، أمرًا مألوفًا في الإعلانات وأماكن العمل، وأصبحت الرغبة الجنسية لبنة أساسية في بنية الاقتصاد.
تعبر الدراسة التي تقدمها إيلوز عن منعطف في دراسات علم الاجتماع، فبينما ركز علم الاجتماع بشكل كلاسيكي على دارسة تشكل العرى والوشائج الاجتماعية كما تشير الأخيرة، فإن علم الاجتماع في الوقت الحالي بات مهتمًا في المقابل بدراسة أسباب وكيفية انهيار الأواصر الاجتماعية وذوبانها.تشير إيلوز إلى أن العلاقات الجنسية العرضية هي أبرز مثال على تلك “الروابط السلبية”، بحكم طبيعتها قصيرة العمر والتي تتمحور حول المتعة، على النقيض من “الخطية السردية” للعلاقات الحميمية التقليدية بين الجنسين والتي تتقدم عبر سلسلة من الخطوات نحو هدف محدد؛ ولذلك فإن أي توقعات للألفة والالتزام والمسؤولية في تلك العلاقات الجنسية العرضية تكون محدودة، نظرًا لأن الشركاء غالبًا ما يكونون غرباء عن بعضهم البعض ويمارسون الجنس من أجل تحقيق الرضا الشخصي، دون ارتباط أو التزام عاطفي نحو الشريك الآخر.
بحسب إيلوز أصبح الحب الحديث في ظل الرأسمالية وتطبيقات المواعدة على الإنترنت شكلًا من أشكال الاستغلال للنساء. حيث صارت أجساد النساء سلعًا يتم شراؤها في سوق العرض والطلب، وباتت النساء أنفسهن تسوقن أجسادهن على مواقع الإنترنت الجديدة على أنها سلع يتم تداولها وبيعها بالمزاد؛ ليتم استهلاكها، والتخلص منها واستبدالها عندما يتقادم جمالها. لهذا خلقت التطورات التكنولوجية جنبًا إلى جنب مع الفردية والنزعة الاستهلاكية، ظروفًا مواتية لتشكل الروابط السلبية قصيرة المدى والمحكوم عليها بالفشل.
بحسب إيلوز، تغلغل الاقتصاد الاستهلاكي في أشد الجوانب خصوصية في حياة الأفراد، بسبب أيديولوجية “الحرية الشخصية الراديكالية”. والنتيجة هي ما تسميه المؤلفة بـ “العلاقات السلبية”، التي حلت محل أشكال الحب الناضجة والودودة. تقدم إيلوز أمثلة على تلك “العلاقات السلبية”، من الأدب ووسائل الإعلام، لكن الجزء الأكبر من بياناتها يأتي من المقابلات التي أجرتها مع ما يقرب من 100 شخص. من الذكور والإناث، والصغار والكبار، على حد سواء.
وبما أن الرأسمالية الاستهلاكية هي المسؤولة إلى حد كبير عن الوضع الحالي، فإن الطرف الشرير في هذه القضية بحسب إيلوز هو الحرية الجنسية، التي قضت على التقاليد الاجتماعية للعلاقات بين الجنسين، وآداب السلوك الصحيحة، وتوقعات الشفافية العاطفية؛ واستبدلت كل هذا بمفهوم “الموافقة” ( (Consentالمستعار من العلاقات التعاقدية، حيث يدخل طرفا العلاقة طواعية في علاقات عرضية بهدف المتعة مع الحفاظ على الاستقلالية من خلال الإصرار على عدم وجود التزامات مستمرة. لكن هذه العلاقات التعاقدية، غالبًا ما تفشل كما تؤكد إيلوز في إنتاج إجماع متبادل لأن كلا الطرفين قد يكون لديه أهداف مختلفة ومفاهيم مختلفة لتلك “الموافقة”. وتتحول قيمة الجسم إلى سلعة سوقية بطريقة تقلل من قيمة النساء على وجه الخصوص، لأن أجسادهن لها “مدة صلاحية” أقصر من أجساد الرجال على حد تعبيرها. ولأن الرجال أيضًا ينظرون إلى أجساد النساء بينما يتجاهلون شخصياتهن، بينما تنظر النساء إلى الرجال بصورة أكثر شمولية.
تروج تطبيقات المواعدة بحسب المؤلفة خيال الوفرة الجنسية، وأن شخصًا جديدًا في حالة وجود دائم واستعداد ورغبة. وقد سهَل الإنترنت العلاقات السريعة لأنه جعل المواعدة شكلا من أشكال التسوّق؛ وفي ظل علاقات على تلك الشاكلة يحول الانفصالُ الناسَ إلى سلع “عفا عليها الزمن”؛ ويعزز ذلك التدوير السريع للشركاء، رغبة الطرفين في القيام باستثمارات عاطفية واجتماعية قصيرة الأجل.
نشير ختامًا إلى أن هذا الكتاب يقدم نظرة ثاقبة في مجال بحث تم تجاهله نسبيًا. وهو مكتوب بأسلوب يسهل فهمه، وتوفر المؤلفة خلاله تحليلًا شاملاً وموجزًا حول تأثير الرأسمالية الاستهلاكية على الحياة الشخصية، وتسببها في تفكك الروابط الحميمة، وتكوين روابط على أسس سلبية.
تعليقات
إرسال تعليق