القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة: صوت الحياة عبر مراحل العمر للكاتب إدريس ابورزق 

الحلقة الثامنة : وسادة الوحدة 

في غرفة مظلمة يملؤها صمت السنين، كانت الوسادة تنتظر بطيبةٍ أن تغمرها خصلات شعر "فوزية" البيضاء، كما اعتادت على ذلك طوال عقود. كانت الوسادة مكانًا دائمًا لتسكن فيه روحها المتعبة من الفقد والحنين، وقد أصبحت، مع تقدم عمرها، الملاذ الوحيد لشخص قلبه مرهق من الغربة، وكان يستغيث دون صدى. الوسادة كانت تجمع كل تفاصيل وحدتها، وكل الذكريات التي تنكرت في وجه الأيام.

"كيف تشرق الشمس في العيون المغلقة؟" همست فوزية في تلك اللحظات التي تشعر فيها أن الغرف ضاقت بها، وأصبحت الجدران أصدقاء تتناثر ذكرياتهم على أطراف العمر. في تلك اللحظات، تصبح الوسادة شيئًا أكثر من مجرد مكان تضع فيه رأسها قبل النوم؛ هي الصديق الرفيق، وهي الوحيدة التي تُنصت لآهات قلبها المكسور، وحكاياتها التي لم يكن أحدًا ليحكيها.

لقد فاتها الكثير من العمر، وكلما أخذ الليل مكانه في الكون، شعرت بأن الزمن يعبر عبر حروف قلبها، يحمل كل الهواجس والآمال الصغيرة التي لم تُحقق. وعندما كان الليل يأتي، لا تشعر فوزية إلا بكلمة صمت ترتسم على الجبين، فتلتصق بجدار قلبها الذي يبدو فارغًا رغم كثرة الذكريات.

كانت الوسادة تحمل معها الكثير من الهروب الذي طالما رافقها. لم تجدها مجرد شيء يستريح عليه جسدها، بل صارت هي المكان الوحيد الذي يمكنها فيه أن تتحدث، أن تُفرغ فيه محيط الوحدة الذي يسيطر على قلبها.
أحيانًا، كانت تتخيل أن الوسادة تستمع إليها، تشاركها الزمان، وتردد معها شوقًا أقدم من كل الأمكنة. "كم مر من الوقت؟ وكيف تشبه هذه الوحدة الحجرة المظلمة التي لا تدخلها النجوم؟" تتساءل بمرارة. كانت تتذكر تلك الأيام التي كانت مليئة بالعائلة والأصدقاء، بتلك اللمسات الخفيفة التي تخرجها من فقاعة وحدتها المؤلمة، لكنها سرعان ما اكتشفت أن الأيام لم تكن قادرة على إعطائها دفئًا حقيقيًا.

أما في ليالي أخرى، كانت فوزية تتذكر تلك الأصوات التي كانت تشاركها حياة نضجها المبكر؛ تلك الهمسات البسيطة بين صديقاتها، والضحكات التي سَطَت في زوايا منزلها، ومع مرور الزمن اختفت هذه الوجوه واحدة تلو الأخرى. كانوا يرحلون، مع النضج الذي تُشبهه العزلة. بعد رحيل زوجها، رافقتها الوحدة كما لو أنها قدر لا يمكن الإفلات منه، تتبعها خطواتها كلما وضعت رأسها على الوسادة.

"لا أحد هناك ليملأ فراغي." كانت تقول وهي تدير وجهها نحو الوسادة كما لو كانت تبحث عن جواب. لكن الجواب ظل بعيدًا.

وبينما كانت تغلق عينيها في النهاية، أدركت أنها مع الوقت قد اعتادت أن تتنفس الوحدة. أصبحت معتادة على غياب الآخر، ووجدت أنه يمكن أن يعيش القلب دون الرفقة المعتادة. الوسادة، بأثقالها، كانت تختصر قصة من الغربة عن العالم، لا تشفع أبدًا عن المعاناة ولكن تمنحها بعض الهدوء وسط الألم.

"لقد تعب جسدي، ولكن هل سيتعب الزمن؟" تفكر فوزية، وهي في مكانها تحت غطاء هدوء الليل، محاطًة بماضيها الحزين وأملها الضائع الذي غاب كما تغيب النجوم.

كانت هذه الوسادة كما كانت بقية الأشياء، بمثابة ملاذ معزول، يغلفها صمت شاسع وعزلة ضوء الليل؛ حتى النجوم، التي اعتادت على ملأ السماء، كانت بعيدة جدًا عن الغرفة المظلمة التي اختارتها فوزية في أغلب الليالي. لكن رغم ذلك، كانت تعلم أن هناك راحة في صمتها، رغم الحزن العميق الذي يلازمها.

أخيرًا، أصبحت الوسادة هي شريك الروح، حيث لا كذب ولا خجل بين شوق ولا فرق بينها وبين الوحدة التي تسكن داخل قلبها.

تعليقات