القائمة الرئيسية

الصفحات

وسائل التواصل الاجتماعي بين الرقابة العائلية والحرية الشخصية: توازن بين القيم والاختيار


محمود سعيدبرغش 

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يمكن تجاوزه في حياتنا اليومية، حيث أصبحت نافذة للتعبير عن الذات ووسيلة للتواصل مع الآخرين. لكن مع كل هذه الحرية التي تتيحها هذه الوسائل، تنشأ تساؤلات حول حدود هذه الحرية، وخاصة عندما تتداخل مع الرقابة العائلية والاجتماعية. هذا التداخل يظهر بشكل واضح على منصات مثل "فيسبوك" و"إنستغرام"، حيث لكل منهما طابع خاص وسياق اجتماعي مختلف.


---


الفيسبوك: الساحة العائلية المفتوحة


يُشبه "فيسبوك" ساحة تجمع عامة، حيث يتواجد الأصدقاء والعائلة والأقارب وحتى زملاء العمل، ما يجعله منصة تشهد مزيجًا معقدًا من العلاقات الاجتماعية.


الرقابة الاجتماعية والعائلية:

يلاحظ المستخدمون في "فيسبوك" شعورًا مستمرًا بأنهم تحت أعين الجميع، خاصة من العائلة.


إذا كان المنشور يعبر عن حزن أو كآبة، تتوالى الأسئلة: "ما الذي حدث؟ هل كل شيء على ما يرام؟"


وإذا كان المنشور مبهجًا أو سعيدًا، يظهر الفضول لمعرفة السبب: "ما سر هذه السعادة؟ هل هناك مناسبة؟"


أما المنشورات الغامضة، فتُفتح على مصراعيها للتأويل والافتراضات: "هل يمر بمشكلة؟ من يقصد بكلامه؟"


هذا النوع من الاهتمام وإن كان يعبر عن الحب والاهتمام العائلي، إلا أنه في كثير من الأحيان يُعتبر عبئًا على الفرد الذي يشعر بأن حرية التعبير لديه أصبحت مقيدة.


---


إنستغرام: النادي الخاص


على النقيض، يوفر "إنستغرام" أجواء مختلفة تمامًا، حيث تبدو المنصة أشبه بنادٍ خاص أكثر خصوصية وهدوءًا.


يعتمد إنستغرام بشكل أساسي على الصور والفيديوهات، مما يجعل التركيز أقل على الكلمات والتفسيرات.


يُتيح للمستخدم مساحة أكبر من الحرية، إذ غالبًا ما يكون المتابعون من دائرة الأصدقاء المقربين، ما يقلل من التدخلات والتفسيرات غير المرغوبة.


يُفضل المستخدمون هذه المنصة للتعبير عن أنفسهم بطريقة غير مباشرة ودون الحاجة إلى تبرير ما ينشرونه، ما يجعل البيئة أكثر راحة واستقلالية.


لهذا السبب، يُعد إنستغرام ملاذًا للكثير من الأشخاص الذين يفضلون الابتعاد عن أجواء النقاشات المطولة أو الفضول المفرط.


---


بين الحرية والرقابة: منظور إسلامي


الإسلام دين يوازن بين الحقوق والواجبات، ويُقدِّر الخصوصية الفردية مع مراعاة المسؤولية الاجتماعية. يقول الله تعالى:


> "وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا" (الحجرات: 12).

توضح هذه الآية بجلاء أن التدخل في خصوصيات الآخرين أو تأويل أفعالهم يعد سلوكًا مذمومًا.


كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:


> "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (رواه الترمذي).

يوضح الحديث النبوي الشريف أن عدم التدخل في أمور الآخرين هو علامة على رقي الإسلام في أخلاقيات الفرد.


---


آداب التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي


لكي نحافظ على التوازن بين حرية الفرد واحترام الروابط الاجتماعية، يمكننا وضع بعض القواعد المستوحاة من القيم الإسلامية والأخلاقيات العامة:


1. احترام الخصوصية:

يجب أن نترك لكل فرد حقه في التعبير عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة، دون الضغط عليه لتفسير منشوراته أو أفعاله.


2. حسن الظن:

بدلاً من إساءة الظن أو الافتراضات السلبية، ينبغي أن نميل إلى تفسير أفعال الآخرين بطريقة إيجابية.


3. الرفق في السؤال:

إذا استدعت الحاجة إلى الاستفسار عن شيء ما، ينبغي أن يكون ذلك بأسلوب مهذب وغير متطفل.


4. القبول بالتنوع:

لا يوجد معيار واحد للطريقة التي يُعبِّر بها الناس عن مشاعرهم أو أفكارهم. علينا احترام هذا التنوع في التعبير.


5. تجنب النقد المفرط:

النقد السلبي يمكن أن يكون مُثبطًا للآخرين. فلنحرص على تقديم تعليقات بناءة ومشجعة.


6. التفكر قبل النشر:

على المستخدم أن يفكر في تأثير منشوره على الآخرين قبل نشره، وأن يتأكد من أنه لن يتسبب في إساءة أو سوء فهم.


---


الخاتمة: نحو استخدام رشيد لوسائل التواصل الاجتماعي


وسائل التواصل الاجتماعي، كأي أداة أخرى، يمكن أن تكون وسيلة للتواصل الإيجابي أو سببًا للخلافات والتوترات. يعتمد الأمر كله على طريقة استخدامها ومدى وعي المستخدمين بقواعد وآداب التعامل.


"فيسبوك" و"إنستغرام" يمثلان وجهين مختلفين للتواصل. الأول بيئة اجتماعية مليئة بالحب ولكنها قد تكون خانقة بالرقابة، والثاني مساحة شخصية تمنح المستخدم حرية أكبر للتعبير.


إن التوازن بين الحرية الشخصية واحترام العلاقات الاجتماعية يتطلب وعيًا جماعيًا. علينا أن نستمد قيمنا من تعاليم الإسلام التي تدعونا إلى الاحترام، وحسن الظن، وترك ما لا يعنينا. عندها فقط يمكننا أن نجعل من هذه الوسائل أدوات بناء تعزز الروابط الاجتماعية بدلاً من أن تكون مصدرًا للتوتر أو الشقاق.

تعليقات