الحلقة الأولى : رقصة اللهب
كان في قلب بيته القديم، في زاوية نائية أمام موقده الدافئ، يجد سليم نفسه ضائعًا بين اللهب. لا شيء يهدئه كما يفعل الضوء المتراقص في النار. النار له كانت أكثر من مجرد لهب، كانت رفيقًا قديمًا، صديقًا وصارمًا في آن معًا. شعلةُ نار على المدفأة تذكّره دائمًا بصراعاته الداخلية، تلك النيران التي كانت تتلظى في روحه، تبحث عن من يرويها، تبحث عن قفزات الإبداع، وتبحث عن مكان تنفجر فيه.
كان سليم دائمًا مملوءًا بالشغف، بهيجًا حين يكون قادراً على التعبير عن نفسه، وحين يكون قادرا على الإبداع بحرية. ولكن ذلك الشغف أحيانًا كان يتحول إلى نار محطمة. كانت دواخله تشتعل بغضبٍ لا يجد له متنفسًا، فتندلع مشاعر غير محكومة تقضي على سلامه. كان يحاول أن يقود شغفه في اتجاهٍ لا يؤذيه، أن يحوله إلى قوة تبني لا تدمر، ولكن دون جدوى.
في لحظات عزلته أمام الموقد، كان يتأمل في لهيب النار ويرى فيه انعكاسًا عميقًا عن نفسه. بدأ يتساءل: كيف أتحكم في اللهب الذي يشعل عقلي؟ كيف أوجهه حتى لا يحرقني؟ كان هذا السؤال يطارده طوال السنين، وعينه تراقب الراقصين الصغار من الألسنة التي تتراقص في النار، فتلك الراقصة الصغيرة التي لا تكاد تدوم لحظة، تقلب قلبه في ذات الوقت الذي تهب فيه الحياة لأعماقه.
لكن الشغف العاطفي، والشرارة المدفونة فيه، سرعان ما تشتعل. كان يتعامل مع الناس بحماسة وتدفق، حتى يصبح فجأة غاضبًا عندما لا تسرّه نتائج أعماله أو أفكاره. كانت نظرته متوترة، وكأنه على حافة الانهيار في تلك اللحظات التي تفلت فيها زمام الأمور.
رغم أنه كان يسيطر على موقد النار بحذر، إلا أن تلك الشعلة الصغيرة بداخل صدره كانت تحتاج باستمرار للاحتراق. مرّ بتجارب محبطة جعلت قلبه يشعر وكأن نارًا تزداد هائجتها. ظل يبحث عن لحظة من الهدوء داخل تلك الفوضى الداخلية.
حتى جاء ذلك المساء، حيث قرر أن يقف أمام اللهب بتحدٍّ أكبر. قرر أن يعلّم نفسه كيف يمكن لللهب أن يكون معلمًا، لا دمارًا. جلس أمام موقده وأشعل النيران بصمتٍ كبير. كان هو والموقد وحيدين في تلك اللحظة. النيران كانت في أوجها، والألسنة تتراقص كأنها تمثل كل رغباته المكبوتة، وكل الغضب الذي لم يجد يومًا متنفسًا.
راقب سليم اللّهَب، وكل شعلة تأخذ شكلًا مختلفًا؛ بعضها كانت تميل نحو الهدوء، وأخرى كانت تدور في رقصات غاضبة. تساءل: هل يمكنني أن أكون كالنار؟ كان يراها ترتفع وتقوى فقط لتخفض نفسها بعدها بلطف. تتقلب وتتجدد لتظل في حالة دائمة من الحركة والمرونة.
في تلك اللحظات أمام الموقد، شعر بشيء بدأ يتغير داخله. قرر أن يتبع ذلك الرقص الخفيف للنار. تعلم منها كيف تحترق ثم تتناثر بسلام، كيف يمكن للشرارة أن تلدّ الفجر بدلًا من أن تشعل الليل.
من ذلك المساء، أصبحت النار مصدر إلهام له أكثر من كونها تهديدًا. تعلم أن مشاعره هي النار نفسها. لا يمكنها أن تكون دائمًا تحت السيطرة، لكن يمكن توجيهها. نار شغفه تحولت إلى إبداع في الرسم والكتابة، والغضب أصبح قوة دفع للعمل الجاد بدلًا من أن يكون سببًا للتدمير. أصبح يعرف اللحظة التي يجب فيها إخماد ألسنة الغضب، والتحلي بالصبر لإشعال النيران التي تحمله إلى سماء جديدة.
تعليقات
إرسال تعليق