نبدأ بابن المعتز(٢٩٦م) الذي نبّه على عدم الإفراط في استخدام البديع رغم أنه كان من جيل المحدثين الذين يستخدمون البديع في اشعارهم،
ولكنه كان يرى أن الإفراط فيه منقصة تؤدي إلى التمحل والتكلف الزائد وهو ضرب من الغموض والتعسف حيث خص أبو تمام الذي افتتن بالبديع ..
وببحثنا في ماهية البديع وأراء بعض أامتنا وجدناه عند ابن المعتز ظاهر في خمسة أبواب حيث الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد العجز على ما تقدم فيه والمذهب الكلامي والذي كان يطلق عليه النقاد قديماً (الحيلة اللفظية)...
ومن هذا المنطلق يلوح لنا سؤال وهو: ما موقف النقاد العرب في ذلك الوقت من استخدام البديع؟
وبالرجوع قليلاً والعودة إلى الجاحظ وابن قتيبة نجدهما قد أيدا استخدام البديع شريطة إحسان استخدامه دون الإفراط فيه وذلك لأن هناك معانٍ كثيرة جداً قيلت من قِبل المتقدمين ولا ضير في استخدام البديع فهو يخرجهم من بوتقة القديم بعض الشيء لما فيه من تأنق في الألفاظ وإغراب في بعض المعاني وزينة في الحاشية وطرب في موسيقي وهذا راي ابن طباطبا(٣٢٢م) أيضاً ذلك الأخير الذي لا يرى جديداً إلا هذا المذهب المتأنق
المحدث للاغراب....
وتحدُث الصدمة حينما يأتي بعده إمامنا الجليل الإمام الآمدي (٣٧٠م) ويختلف معهم اختلافاّ بناه على أن هناك من المحدثين مطبوعين بالفطرة وليُدلل على ذلك حينما عقد مقارنة بين البحتري وأبا تمام فقد سار البحتري على نهج المتقدمين ونسج شعره على منوالهم فجاء شعره جيداًـ
فالبحتري أعربي الشعر مطبوع بالفطرة على مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف أبداً.
وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام بينما ابو تمام كان متكلفاً بل وكان شديد التكلف صاحب صنعة وأحياناً كان يستكره الألفاظ والمعاني وأحياناً أخرى كان شعره يختلف عن شعر الأوائل فلا يسير على طريقتهم لأنه ياتي بالإستعارة البعيدة والمعنى المولد...
فهذا كان رأيي الآمدي في أشعار ابو تمام تلك القامة الأدبية العربية المعروفة على مستوى العالم ليأتي رأي الامام الآمدي فيه بهذه القسوة بل وليس هذا فحسب!
بل أتى بعده القاضي الجرجاني(٣٩٢م) ليواصل ما بدأه ابن المعتز والآمدي في الهجوم على أبي تمام الذي حاول أن يستخدم البديع وطريقة المحدثين بصورة مندمجة مع طريقة المتقدمين لكن حصل توعير في اللفظ فقبحه وتعسف وتعصب وأحدث غموضاً واغراضاً، خفية، غثة، ثقيلة،..
لذلك نرى أن الجرجاني شأنه شأن ابن المعتز والآمدي لا ينكر العناية بالشعر والصنعة فيه وإنما ينكر التعسف والإكراه والإكثار من الصنعة الغير مجزية لذلك يقول الجرجاني:
"" وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحة وجزالة اللفظ واستقامته وتُسَلِّمْ بالسبق فيه لمن وصف فاصاب وشبّه فقارب وبدَّه فاغزر..
ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالبديع إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض..
ولا يفوتنا أن نقول أن الجرجاني لا يُنكر ما يحققه البديع للأبيات من غرابة وحسن تميز عن أخواتها ..
في الرشاقة واللطف وإنما ينكر التعسف والتكلف حيث يقول الجرجاني عن ابي تمام:
"" إنما افتتح الكلمة وهو يجري مع طبعه فينظم أحسن عقد ويختال فيه مثل الروضة الأنيقة حتى تعارضه العادة السيئة ويقصد بالعادة السيئة (البديع والتكلف) فيتسنم أوعر طريق ويتعسف أخشن مركب فيطمس تلك المحاسن ويمحو طلاوة ما قدم من أشعار فيعرض عليك اللذه ولكن يحدث في نشاطك فِترة وهذه الطريقة أحد مانعي على ابي الطيب المتنبي...
تعليقات
إرسال تعليق