بقلم: د. عبدالرحمن موسى
تاريخ: 25-12-2025
نشأت (عفاف) في قرية نائية يلفها البؤس، وتكسوها الأحزان، كانت طفلة وحيدة في عالم فقدت فيه والديها في حادث سير مروع وهي في الخامسة من عمرها، تاركين وراءهم طفلة بريئة تواجه قسوة الحياة ببراءة الصغار.
ضمها خالها (جلال) فهو رجل بسيط يعاني شظف العيش لكنه يمتلك قلبًا نابضًا بالحب والحنان
لم تكن الحياة رحيمة حيث كانت (عفاف) يتيمة بلا معين تحيا الألمَ بوجهٍ حزين، لكنها كبرت بين حقول القرية، تجمع السنابل وتسقي الورد الذابل، عملت في الحقل لمساعدة خالها، لكنها كانت تحمل في قلبها إصرارًا غريبًا على تغيير مصيرها.
على الرغم من قلة الموارد، أصر خالها على تعليمها إذ رأى في قلبها شعلة لا تنطفئ، كانت تؤمن بالتحدي في الحياة، وأن الهروب ليس طريقاً إلى النجاة، بل في الرغبة والامل والمداومة على العلم والعمل.
في كل صباح كانت (عفاف) تقف أمام النافذة المهترئة، تستذكر دروسها وتكرر حروفها حيث تحدت الفقر وقسوة السخرية من زملائها، الذين كانوا يرون في ثيابها البالية وسيلة للانتقاص منها لكنها لم تلتفت، بل دوّنت في دفترها
(إن الثوب لا يصنع الإنسان، وإنما يصنعه الفكر والوجدان) وذات يومٍ سخر منها أصدقاؤها فدوّنت في دفترها
(ذات يومٍ سخر مني الرفاق فقلت بثقة اشهد يا زمان أني أصنع الآفاق)
مع كل عام، كانت (عفاف) تزرع بذور التفوق، حتى حصلت على منحة دراسية لتكمل تعليمها الجامعي في المدينة، كانت لحظة وداعها لخالها مؤثرة، إذ قال لها بصوت متهدج ( اصنعي مجدك، ولا تنسي من احتضنك يومًا)
في أروقة الجامعة، كانت (عفاف) شغوفة بكل ما تتعلمه، وفي يومٍ مشحون بالتحدي، كان اللقاء الأول بين (عفاف) و(آدم) في قاعة المحاضرات المزدحمة
(آدم)، شاب وسيم وذكي، يحمل بين يديه كتابًا مليئًا بالمعادلات المعقدة، لم يكن لقاؤهما عاديًا، بل كان بداية لارتباط عقلي وروحي عميق، منذ ذلك اليوم، لم تكن علاقتهما مجرد لقاء عابر، كلاهما كان يحمل في أعماقه شغفًا للابتكار، وكأن الأقدار نسجت خيوطها لتجمع بينهما في طريق واحد.
سقط كتاب (عفاف) من يدها وهي تحاول البحث عن مكان شاغر، فانحنى (آدم) ليلتقطه وألقى نظرة على عنوانه، قال بابتسامة واثقة
(كتاب نظرية الاحتمالات)
يبدو أننا سنكون فريقًا مثيرًا للجدل
كانت (عفاف) تشاهد (آدم) يخط المعادلات بعناية، فتقدمت نحوه قائلة: “إنها تبدو كأحجية بلا نهاية” رفع عينيه مبتسمًا، وقال
“كل مشكلة تحمل حلاً، إن كنا أذكياء بما يكفي لنراه”
لم تكن علاقة (عفاف) و(آدم) مجرد صداقة عابرة، بل سرعان ما تحولت إلى شراكة فكرية، كانا يقضيان الساعات يناقشان أفكارًا مبتكرة لتأسيس مشروع مشترك.
بعد التخرج، اقترح (آدم) على (عفاف) فكرة تأسيس شركة صغيرة لتطوير البرمجيات، لم تكن لديهم الموارد الكافية، لكنهما اتفقا على العمل من حديقة صغيرة، حيث كانا يمضيان الأوقات الطويلة في التخطيط والبرمجة.
في إحدى المرات، عندما تعطل أحد مشاريعهم بسبب خطأ برمجي، أمضيا ثلاثة أيام متواصلة لإصلاحه، وفي نهاية الليلة الثالثة، قال (آدم) مبتسمًا: “(عفاف)، لولاكِ، لما كنت سأصل إلى هنا.
وفي أحد الأيام، أثناء العمل على مشروعهما الأول، كانت (عفاف) و(آدم) يعملان على مشروع تخرجهما المشترك عندما فقدت ملفًا يحتوي على البيانات الأساسية فأصابها الذعر، لكن (آدم)، بهدوء لا يتزعزع، قال: ثقي بي، سنعيد كل شيء
استخدم (آدم) مهاراته في البرمجة واستعاد الملفات من ذاكرة النظام المؤقتة، كانت (عفاف) تنظر إليه بدهشة وهي تقول:
أنت لا تنقذ الملفات فقط، بل تنقذني أنا أيضًا
ابتسم قائلاً: ما قيمة العبقرية إن لم نستخدمها وقت الحاجة
وذات مرة اتفقا على صفقة معينة فتعطل النظام فجأة، وكاد العميل أن يلغي الصفقة جلست (عفاف) على الأرض تبكي بصمت، بينما قال (آدم): لن نستسلم فكل سقوط هو درس، وكل أزمة هي فرصة
مرت حياتهما بالمواقف المضحكة والمبكية فذات يوم، نسي (آدم) كلمة المرور الخاصة بأحد أنظمة الشركة، واضطر لتفكيك النظام برمته لإعادة تشغيله، كانت (عفاف) تضحك قائلة:
لو كان بإمكاني برمجة عقلك، لجعلت كلمات المرور محفوظة فيه للأبد
بفضل هذا الإصرار، نجحا في تجاوز العقبات، وبدأت شركتهما تكبر رويدًا رويدًا، شعرت (عفاف) بدفء المشاعر يتدفق بينهما، وبعد فترة، اعترف كل منهما للآخر بحبه وكان الحب ينمو بينهما ويتسلل إلى القلوب دون استئذان، وفي إحدى الأمسيات، أثناء العمل على مشروعٍ طويل، نظر (آدم) إلى (عفاف) وقال:
“أتعلمين؟ أنتِ لستِ مجرد شريكة عمل أنتِ شريكة حياة”
ابتسمت (عفاف) بخجل وقالت: وأنتَ من أعاد لقلبي الأمل
بدات الشركة تكبُر وتزدهر، بعد سنوات من العمل المتواصل، أصبحت شركتهم رائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث حصلوا على جوائز عالمية لابتكاراتهم، أصبح اسمهما رمزًا للتفوق والإصرار.
دخلت شركتهما في منافسة شديدة مع شركة كبيرة أخرى، كان التحدي تصميم نظام ذكاء اصطناعي يفهم مشاعر البشر
قالت (عفاف): (آدم)، هل تظن أننا سنفوز؟
أجابها بثقة: طالما نحن فريق واحد، فلا شيء مستحيل
عملا ليالٍ طويلة، مستلهمين ذكرياتهما وحكاياتهما الشخصية لصناعة نظام يعكس الحب والتفاهم، في النهاية، فازا بالجائزة الكبرى وسط تصفيق الحضور
فوقف(آدم) أمام الحضور قائلاً:
هذا النجاح ليس ملكًا لي وحدي. إنه ملك لمن وقفت بجانبي حين كان الطريق مظلمًا، لمن أضاءت حياتي بالعلم والحب
ابتسمت (عفاف)، وهي تقول بصوت عال:
لقد صنعنا معًا عالمًا جديدًا، ولم نكتفِ بالحلم فنجاحنا ليس فقط بفضل ذكائنا، بل بفضل حبنا ودعمنا لبعضنا البعض
فقال (آدم) للحضور (عفاف) ليست شريكتي فقط، إنها روحي
استمرت مغامراتهما، بين تحديات العمل وحكايات الحب والمواقف الطريفة، أصبح اسمهما علامة فارقة في عالم الابتكار، وقصتهما مصدر إلهام لكل من يسعى للنجاح بقلبٍ يحب وعقلٍ لا يتوقف عن الإبداع.
اجتمعت عفاف بخالها جلال و قالت له أتذكر يوم أن قلت لي
اصنعي مجدك، ولا تنسي من احتضنك يومًا
لقد صنعت مجدي وبنيت بيتي وأسست شركتي وجاء الوقت كي أحتضن من رباني.
دمتم بخير
تعليقات
إرسال تعليق