القائمة الرئيسية

الصفحات


بقلم : على فتحى


التعليم هو القاعدة التي يبنى عليها مستقبل أي أمة، لكن الواقع الذي يعيشه التعليم في مصر يضع هذه القاعدة في خطر كبير ، ووسط هذا المشهد، يقف المعلم في خط المواجهة الأول، ولكنه للأسف يُصارع في ساحة غير متكافئة. 

معلم اليوم، الذي كان يُنظر إليه سابقًا كرمز للهيبة والعلم، بات يعاني من تدهور أخلاقيات المجتمع المحيط به داخل الفصول وخارجها، وهو ما يظهر جليًا في تزايد حالات التجاهل والإهانة التي يتعرض لها، سواء من الطلاب أو أولياء الأمور.

المشهد الذي انتشر مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي لطالبات يتلفظن بألفاظ غير لائقة أثناء وجود معلمهن في الفصل يعكس مأساة حقيقية ، هذه الواقعة لم تكن استثناءً، بل هي نموذج يعكس أزمة أخلاقية عميقة تنخر في عظام العملية التعليمية. 

لقد تحوّل الفصل الدراسي من مكان يُفترض أن يكون مقدسًا للعلم والتربية إلى ساحة للعبث والسلوكيات غير اللائقة، الطلاب لم يعودوا ينظرون إلى المدرسة باعتبارها مؤسسة تُشكل مستقبلهم، بل يرونها في كثير من الأحيان مكانًا لتضييع الوقت، بينما يُترك المعلم عاجزًا عن السيطرة أو فرض الاحترام.

المعلم في مصر، الذي يُفترض أن يكون حامل مشعل التنوير، يجد نفسه اليوم في موضع الضحية.

 هذه الوضعية ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكم طويل من التهميش، سواء على المستوى المادي أو المعنوي ،قلة الرواتب والظروف المعيشية الصعبة تُجبر الكثير من المعلمين على اللجوء للدروس الخصوصية، مما يُضعف دور المدرسة ويُفاقم من الفجوة بين المعلم والطلاب، وفي ظل غياب قوانين تحمي المعلم من الإساءات، يجد نفسه محاصرًا بين محاولاته للحفاظ على مكانته ومحاربة سلوكيات الطلاب السلبية.

إذا أردنا الحديث بعمق عن حلول لهذه الأزمة، يجب أن نبدأ أولًا بتحديد جذور المشكلة ،فالتعليم في مصر لا يُعاني فقط من نقص الموارد أو تراجع البنية التحتية، بل يُعاني من أزمة قيم وأخلاقيات تُضعف من هيبة المعلم ومكانته ، وللتعامل مع هذه القضايا المتشابكة ، يجب أن يكون الحل شاملًا ومُتكامِلًا، يبدأ من إصلاح علاقة المعلم بالطلاب وأولياء الأمور، وصولًا إلى تحسين أوضاعه المعيشية وضمان حمايته القانونية.

في البداية، يجب أن نُقرّ بأن غياب قوانين صارمة تحمي المعلم هو أحد الأسباب الرئيسية لتدهور مكانته ، كما إن إصدار تشريعات تجرّم أي إساءة لفظية أو جسدية يتعرض لها المعلم يُعد خطوة أساسية لإعادة الهيبة له.

 هذه القوانين يجب أن تكون واضحة ومُعلنة للجميع، بحيث يعرف الطالب وولي الأمر أن أي تجاوز تجاه المعلم سيواجه بعقوبات صارمة ، فعلى سبيل المثال، يمكن وضع لوائح داخل المدارس تُحدد بوضوح حقوق المعلم وواجباته، مع آليات تضمن تنفيذها دون تهاون.

تحسين الوضع المادي للمعلم هو النقطة الثانية التي لا غنى عنها ، لا يمكن للمعلم أن يُقدّم أداءً متميزًا إذا كان يعاني من ضغوط مادية مستمرة ، كما إن رفع الرواتب ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان استقراره النفسي والاجتماعي فهذا التحسين المادي يجب أن يُرافقه توفير برامج تدريب مستمرة لتطوير مهارات المعلمين وإطلاعهم على أحدث أساليب التدريس، مما يُسهم في تعزيز ثقتهم بأنفسهم ويُعيد لهم شعورهم بالاعتزاز بمهنة التعليم.

علاقة المعلم بأولياء الأمور تُشكل محورًا آخر يجب معالجته ،

 للأسف، العديد من أولياء الأمور ينظرون إلى المعلم باعتباره طرفًا مسؤولًا بشكل كامل عن تعليم أبنائهم، بينما يتجاهلون دورهم الأساسي كشركاء في هذه العملية.

إن تعزيز التعاون بين الطرفين يمكن أن يتم من خلال برامج توعوية تُسلط الضوء على أهمية دعم المعلم واحترامه ، فهذه البرامج يمكن تنفيذها من خلال اجتماعات دورية داخل المدارس تُتيح للمعلمين وأولياء الأمور مناقشة التحديات المشتركة ووضع حلول عملية.

الانضباط داخل الفصول الدراسية يُعدّ عنصرًا حيويًا لا يمكن التغاضي عنه ، كما إن غياب الانضباط يعني غياب البيئة المناسبة للتعليم ولتحقيق ذلك، يجب على إدارات المدارس وضع لوائح سلوك صارمة تشمل نظامًا للمكافآت والعقوبات. 

الطلاب الذين يظهرون التزامًا واحترامًا يجب أن يتم تكريمهم بشكل علني لتحفيز الآخرين على الاقتداء بهم، بينما تُفرض عقوبات تربوية على من يخالف القواعد.

التحدي الأكبر ربما يكمن في تغيير نظرة الطلاب إلى المدرسة والمعلم هذا التغيير يبدأ من المناهج الدراسية نفسها، التي يجب أن تُركز على القيم الأخلاقية والاجتماعية إلى جانب المواد الأكاديمية بالإضافة إلى دمج موضوعات تُبرز أهمية احترام المعلم ودوره في المجتمع داخل المناهج يمكن أن يُسهم في تعزيز هذه القيم لدى الطلاب.

كما ان الدروس الخصوصية، رغم كونها واقعًا مفروضًا على كثير من الأسر، يجب أن يتم تقنينها وتنظيمها مع وضع إطار قانوني يُحدد معايير تقديم هذه الدروس سيُسهم في الحد من تأثيرها السلبي على الحصص المدرسية، ويُعيد الاعتبار للمعلم كقائد داخل الفصل.

أخيرًا، الأنشطة اللاصفية تُعد أداة فعالة لتعزيز العلاقة بين المعلم والطلاب فهذه الأنشطة تُتيح للمعلم فرصة للتواصل مع الطلاب خارج إطار الحصة التقليدية، مما يُساعد على بناء علاقات إيجابية مبنية على الاحترام المتبادل.

المعلم ليس مجرد موظف، بل هو صانع أجيال ومهندس عقول. الحفاظ على مكانته وضمان كرامته ليس واجبًا تجاهه فقط، بل هو مسؤولية تجاه المجتمع ككل. إذا استمررنا في تجاهل مشكلات التعليم وإهمال حقوق المعلمين، فإننا نُخاطر بمستقبل أجيال بأكملها. التعليم القوي يبدأ بمعلم قوي، والمعلم القوي يحتاج إلى دعم مجتمعه واحترامه قبل أي شيء آخر.

تعليقات