صوت المطر
في كل ليلة شتوية، كانت ليلى تجلس قرب نافذتها، تراقب قطرات المطر وهي تتساقط بلطف على الزجاج، تراقب السماء وكأنها تحمل رسائلَ من حبها الضائع. كانت الأمطار بالنسبة لها أكثر من مجرد ظاهرة طبيعية؛ كانت رابطًا خفيًا بينها وبين خالد، ذلك الشاب الذي تسلل إلى قلبها يومًا وما زال يقيم فيه رغم مرور السنين.
ذات مساء بارد، عندما كان المطر ينهمر بغزارة، تذكرت ليلى أول لقاء جمعهما في مقهى صغير على جانب الطريق. كان المطر يتساقط برفق، وهما يجلسان متقابلين، يحتسيان القهوة وينظران إلى بعضهما بصمت. شعرت يومها بأنها وجدت في عينيه ملجأً آمناً من ضجيج العالم، وكأن سكون المطر كان خلفية لمشهد جمع روحين اكتملتا معاً.
منذ ذلك اللقاء، صار للمطر معنىً مختلف في حياتها. كانت تخرج كلما أمطرت، تسير تحت زخات المطر وتتذكر كلماته، ضحكاته، ولمساته التي لا تزال تشعر بدفئها في كفها. كان المطر يحرك فيها شوقًا خامدًا، كأنه يُعيد إليها حبيبًا رحل دون أن يقول وداعًا.
مرت السنوات، وبقيت ليلى تنتظر صوت المطر ليحمل إليها ذكرى خالد، رغم علمها أنه بعيد، بعيد جداً. كانت تعود في كل مرة إلى ذات المقهى، تجلس في نفس المكان، تُشعل شمعة صغيرة وتطلب فنجان القهوة الذي كان يحبه، كأنها تؤدي طقساً مقدساً لاستحضار روح الحب الذي غاب عنها.
كانت تكتب له رسائل لا تنتهي، تخبره فيها عن حياتها من دونه، عن الأيام التي تمضي فارغة، وعن الذكريات التي تغمر قلبها في صمت. لكنها لم ترسلها يوماً، كانت تطويها بحرص وتحتفظ بها، كأنها تخشى أن تتبخر مشاعرها إذا ما غادرت كلماتها الورق.
وذات ليلة، وبينما كانت غارقة في أفكارها، سمعت طرقات خفيفة على باب المقهى. رفعت عينيها، فشعرت بقلبها يتوقف لوهلة؛ أمامها كان خالد واقفاً، مبتلاً بالمطر، ينظر إليها بنفس العيون التي أحبّتها يوماً. اقترب منها بهدوء، كأن الزمن لم يمر، وكأن رحلتهما لم تنتهِ بعد. جلس أمامها، وأمسك بيديها دون أن ينطق بكلمة، وكأنهما يتواصلان بصمت، كما في ذلك اللقاء الأول.
لكن سرعان ما تلاشى هذا المشهد حين أفاقت ليلى من حلمها. لم يكن خالد هناك، ولم يكن أحدٌ يطرق الباب. كانت وحيدة، كما اعتادت أن تكون، مع ذكريات حبها الضائع. شعرت بغصة في حلقها، لكنها لم تبكِ. عرفت أن كل ما رأته كان مجرد شبح من ماضٍ عتيق، جلبه المطر معها ليخفف عنها ألم الحنين.
استعادت أنفاسها، ونظرت من نافذتها إلى السماء التي توقفت عن البكاء. شعرت أن روحها، كالسحب، قد أفرغت ما بداخلها من دموع وحنين. كانت تدرك أن خالد لن يعود، وأن كل تلك الأمطار لن تكون إلا رسائل صامتة تذكرها به دون أن تحمله إليها.
تعليقات
إرسال تعليق